نعى الناعي إلينا خبر وفاة المأسوف عليه الصديق العزيز والأخ الفاضل الدكتور أحمد بن علي الشرفي، أستاذ الأدب الحديث المشارك ووكيل عميد شؤون المكتبات بجامعة الطائف، فلم ندر حينها كيف نتقبل الأمر أو نصدق الخبر، حيث كانت الأخبار تصلنا من الرياض بأنه أخذ يتعافى من العارض الذي ألمَّ به منذ ثلاثة أشهر. وطفقت أبحث عن من يمكن أن أجد عنده الخبر اليقين، فوجدت أخاه الشيخ عبدالكريم الذي لازمه فترة مرضه يؤكد ما سمعته، ويضعني ومحبيه أمام موقف لا نُحسد عليه. ثم كان أن نقلت هذه الفاجعة -على وجل وإشفاق- لمحبيه وأصدقائه وزملائه في أنحاء المملكة، واستقبلوها بين مستغرب ومندهش وغير مصدِّق، وهكذا الموت حينما يحل على صديق أو قريب أو عزيز. وبذا طويت صفحة مضيئة من عصامية رجل، وابتلاء مؤمن، واحتساب صابر، ومشاعر إنسان، وعطاء باحث جاد متميز. ولد -يرحمه الله- في مدينة الرياض عام 1379ه، و ترعرع بها، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة الطائف والتحق بمدرسة موسى بن نصير وحصل فيها على شهادة الابتدائية عام 1390ه، ثم التحق بمعهد الطائف العلمي ومكث به نحوًا من ست سنوات ليحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية عام 1397ه بتقدير ممتاز، ويمَّم بعد ذلك نحو بلد الله الأمين -مكةالمكرمة- ليلتحق بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز (شطر مكة) قسم اللغة العربية، ويمكث هناك نحوًا من أربع سنوات ويحصل على شهادة البكالوريوس عام 1401ه في اللغة العربية وآدابها بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وخلال هذه الفترة قام بإجراء عملية جراحية في المفصل بأحد المستشفيات الكبرى بمدينة لندن وتكللت هذه العملية بالنجاح رغم صعوبتها ودقتها. وعاد ليواصل مسير العطاء العلمي فيرشح للعمل معيدًا بكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى، والتحق بقسم الدراسات العليا العربية ( قسم الأدب)، وسجل رسالته للماجستير عام 1403ه، وكانت بعنوان (شعر الرثاء في عهد النبوة والخلافة الراشدة - دراسة توثيقية موضوعية فنية) تحت إشراف الأستاذ الدكتور حسن باجودة، ورغم المتاعب الصحية التي كان يعاني منها آنذاك والتي اشتدت عليه في تلك الفترة فإنه واصل البحث وأصر على تكملته مهما كانت الظروف، وحقق الله عز وجل أمنيته فيحصل على درجة الماجستير عام 1414ه بتقدير ممتاز.. هذه الرسالة متوفرة على الشبكة العالمية «الإنترنت» على الموقع alemtiyaz.net، لمن أراد الاطلاع عليها. ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، ولم يحلْ مرضه -بل أمراضه- دون مواصلة مسيرته التعليمية، فتقدم لكلية اللغة العربية بمكة بأطروحته للدكتوراه وكانت بعنوان «البحر في الشعر السعودي المعاصر» تحت إشراف الأستاذ الدكتورعبدالله با قازي، ونوقشت في العام 1423ه، وحصل على هذه الدرجة العلمية بتقدير ممتاز مع التوصية بطبعها وتداولها بين الجامعات، وهذا ما تم فعلا؛ حيث قام معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى إبان فترة عمادة الأستاذ الدكتور سليمان العايد، بطباعة هذه الأطروحة ونشرها عام 1430ه، واستقبلتها الأوساط العلمية بحفاوة كبيرة وتقدير بالغ. وأثناء انشغاله بالتحضير لدرجة الدكتوراه، وبعد وفاة والده يرحمه الله وبقاء والدته في مدينة الطائف وحيدة لا عائل لها سواه، آثر الانتقال إلى كلية التربية بالطائف التابعة لجامعة أم القرى آنذاك، ليقوم بالإشراف على والدته المسنة، ويتعهدها بالرعاية والبر والصلة. وقد تولى رئاسة قسم اللغة العربية بكلية التربية لمدة عامين، ثم أُسندت إليه وكالة عمادة شؤون المكتبات لفترتين، وشارك في مؤتمرات علمية داخل المملكة وخارجها، ونشر عددًا من البحوث في المجلات العلمية المحكَّمة. وواصل رحلة العلم فحصل سنة 1430ه على درجة أستاذ مشارك في الأدب الحديث. وعادت عليه الآلام مرة أخرى فقرر الأطباء إجراء عملية ثانية للمفصل، وسافر إلى المانيا على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز (تغمده الله بواسع رحمته) وأجرى العملية ونجحت بحمد الله، وطلب الأطباء منه أن يعود العام القادم لإجراء عملية ثالثة، ولكنه في خضم انشغاله بأعباء الجامعة والأسرة والعمل الإداري تناسى ذلك حتى أقعده المرض تماما، مما اضطره لطلب العلاج في الداخل، ولكن الأقدار لم تمهله، وانتقل إلى رحمة ربه في الثاني والعشرين من شهر صفر 1433ه، وصُلِّي عليه بالمسجد الحرام ودفن في البلد الحرام، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. هذا وقد كوَّن عبر تاريخه العلمي مكتبة تراثية ومعاصرة أزعم أنه ليس لها نظير بين مكتبات أقرانه -فيما أعلم، لا أستثني من ذلك سوى مكتبة زميله ورفيق دربه الأستاذ الدكتور عبدالله العضيبي أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى. وقد أجهد نفسه، وأنفق ماله ووقته، في سبيل تكوين هذه المكتبة، فكان على مدى سنوات عديدة يحرص على حضور معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولم يتخلف عنه إلا حينما اشتدت عليه وطأة المرض، وكثرت أعباؤه الأسرية والإدارية، ومع ذلك فقد كان يوصي من يذهب إلى هذا المعرض وغيره من معارض الكتب بأن يحضر له مجموعة من الكتب والمؤلفات. وكنت قد اقترحت على ابنه سامي وأخيه عبدالكريم -وما أظنهم إلا فاعلين- بأن يُعَجِّلوا بإهداء هذه المكتبة القيمة لجامعته التي التحق بها بقية عمره (جامعة الطائف) تقديرًا لها واعترافًا بفضلها، ولتكون له إن شاء الله بابًا من أبواب العلم الذي يُنتفع به، ويُتحصل به الأجر والمثوبة. أما الحديث عن سجاياه -وما أكثرها- فقد كان صديقًا لكل من عرفه ومن لا يعرفه، وما جاءه طالب علم أو صاحب حاجة إلا وتفانى في سبيل تحقيقها له، وبذل فيها غاية جهده، وسعى لها بكل ما أوتي من طاقة ولو كان ذلك على حساب صحته. وما لجأ إليه أحد يشتكي من هم ألمَّ به أو ظلم وقع عليه إلا ووجد عنده مشاركة وجدانية صادقة، وتخفيفًا له مما حلَّ به. وكان كريمًا يُضرب به المثل بين أصدقائه وزملائه في هذا الجانب، ولم يكن يغضب من أحد أساء له أو ينتقم لنفسه لذلك بل كان يسامح ويعفو ويصفح، وما حمل قلبه غلًا أو حقدًا أو حسدًا لأحد بل كان يحب الخير للجميع، ويفرح حين سماعه خبرًا سارًا عمن يعرف، ويتألم أشد الألم حينما يسمع عن أحد خبرًا غير سار، وكان على مسافة واحدة من الجميع. كان طموحًا وصاحب همة عالية لدرجة كان أساتذته وأصدقاؤه يشفقون عليه منهما، ويصدق عليه في ذلك قول المتنبي: وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجساد ومع ما كان -يرحمه الله- يحمله من آلام ومعاناة نفسية وجسمية فقد كان صاحب طرفة ودعابة تضفي السرور والحبور على من يكون معه في مجلسه. هكذا كان الشرفي، أنيسًا ولطيفًا في صحبته وعشرته، صادقًا وصدوقًا في أحاسيسه ومشاعره، وفيًا في صداقته، مترفعًا عن السفاسف وصغائرالأمور، معطاء في علمه وعمله، صابرًا وصبورًا على محنه، شاكرا وحامدًا لأنعم الله عليه وأفضاله. رحم الله أبا سامي؛ فقد كان من خيرة من صحبنا وعرفنا، وغفر الله له وتجاوز عنه ما تقدم، وجعل ما قدمه في موازين حسناته وصحائف أعماله، وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته، وعوضنا وأسرته ومحبيه خيرًا فيه، والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه. * جامعة أم القرى- مكة المكرمة