* تحدّثت في حلقة سابقة عن المؤلَّفات التي عُنيت بتاريخ المدينة المنوّرة في نهاية القرن الثّالث عشر ومطلع الرّابع عشر الهجريّين، وكان الهدف هو إلقاء الضّوء على المعطيات العلميّة والفكريّة والأدبيّة التي توضّح مدى توطّن هذه المعطيات في بيئة المدينة المنوّرة منذ العصور الأولى حتّى هذه العصور المتأخّرة التي تتطلّب وقفات جادّة تتناسب مع مناسبة اختيار المدينة عاصمة للثّقافة لعام 1413ه. وقد توقّفتُ في تلك الحلقة العلميّة على صفحات هذه الجريدة الغرّاء (10 صفر 1433ه / 4 يناير 2011م)، عند مدوّنة المؤرّخ علي بن موسى، التي قام بنشرها الشّيخ حمد الجاسر -رحمه الله- مستقلّة في ملحق من مجلة «العرب» ج4، س6، شوال 1391ه - ديسمبر 1971م، ثمّ ضمن مجموعة رسائل عدّة عن تاريخ المدينة بتاريخ 1392ه - 1972م. * وقد قدّم للرسالة المتخصّصة في وصف المدينة المنوّرة مؤرّخ المدينة وشاعرها السيّد عبيد عبدالله مدني. * وقد سلك السيّد المدني في هذه الرسالة لناحية مضمونها العلمي ضمن كتب الخطط التي وضعها المهتمون بأوطانهم كالمقريزي من القدامى، ومحمّد كرد علي من المحدثين. ويميل أديبنا المدني إلى الاعتقاد بأنّه أوّل مُؤلَّف وصل إلينا في تاريخ المدينة المنوّرة بهذا الأسلوب الوصفي، ناعتًا أسلوب الكتاب بأنّه لا تكلّف فيه، ولغته سهلة. [انظر: التقديم للرّسالة، بعناية السيّد عبيد مدني]. * ولعلّي تعرّضت في الحلقة السابقة لأسرة المؤلّف علي بن موسى، وكان يشغل - حسب رواية المؤرّخ المدني - رئاسة القلم العربي في ديوان محافظ المدينة. * ويذكر المؤرّخ علي بن موسى في تقديمه لهذه الرّسالة بأنّ السيّد علوي بن السيّد عبدالرحيم السقاّف (ت: 1340ه)، نقل إليه رغبة الحاج رامز باشا في كتابه تعريفًا يشتمل على هيئة البلدة الطاهرة، والسيّد علوي السقّاف - كما أعرف شخصيًّا - هو والد السيّد عبّاس السقّاف، وهذا الأخير هو والد كلٌّ من المرحوم السيّد عمر السقّاف، الذي كان يشغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجيّة في عهد المرحوم الملك فيصل بن عبدالعزيز، وأخيه السيّد علوي - شافاه الله -، وشقيقة لهما لا تزال على قيد الحياة، حسب ما علمته من السيّد محمّد عبدالله بافقيه، ذلك لرابطة مصاهرة مع آل السقّاف. * أمّا صاحب الطّلب والرّغبة «رامز باشا» فلست متأكّدًا ما إذا كان المقصود به شخص الفريق أحمد شاكر باشا محافظ المدينة كما ورد عند السيّد المدني عند ذكره لترجمة المؤلّف، أم إنّه شخص آخر. ويشير الباحث عارف عبدالغني إلى أنّ أحمد شاكر باشا كان محافظًا للمدينة المنورة في حوالى 1319-1320ه. [انظر: تاريخ أمراء المدينة المنوّرة، عارف أحمد عبدالغني، دار كنان للطباعة والنّشر، ص 419]. وهو التاريخ الذي يميل المحقّق المدني إلى أنّ المؤلّف ابن موسى ربّما كان حيًّا أثناءه. * ويرد اسم أسرة «آل موسى» ضمن وثيقة تاريخية بأسماء مؤذّني المسجد النّبوي الشّريف، ويعود تاريخ هذه الوثيقة إلى سنة 1276م، حيث ورد اسم الأفندي موسى بن علي بن موسى ضمن مؤذّني المسجد النّبوي، والوثيقة أوردها الأستاذ المؤرّخ أحمد مرشد في كتابه الموسوم «المدينة المنوّرة في عيون المحبّين»، 1432ه، ص 266 - 270. * وبين يديَّ وثيقة تاريخيّة أخرى يعود تاريخها إلى 1290ه، وتشتمل على حوالي 150 مؤذّنًا بين «ريّس» و»مكبّر»؛ ولكنّني لم أعثر فيها على اسم أسرة آل موسى كبقيّة الأُسر المدينيّة التي توارثت هذه المهنة الشّريفة، والبعض منها لا يزال يؤدّيها حتّى وقتنا الحاضر، ممّا يُرجّح أنّ أحد أفراد الأسرة (آل موسى) حظي بإدراج اسمه ضمن مؤذّني المسجد النّبوي في العهد العثماني اعتمادًا على مقوّمات هامّة في شخصيّة المؤذّن؛ منها حُسن الصّوت، واتقان مخارج الحروف، يضاف إلى ذلك معرفة بأصول السلّم الموسيقي المتعارف عليه آنذاك. * وأورد المؤرّخ الشيّخ حمد الجاسر - رحمه الله - رسالة من شخص يدعى محمّد أديب السّلاوي، ويقيم في مدينة الرّياض بتاريخ 24 تشرين الأوّل 1985م، عن صلة علي بن موسى مؤلّف رسالة في وصف المدينة، بعائلة ابن موسى المغربيّة، وكان ردّ الشّيخ الجاسر: بأنّ المعلومات عن المؤلّف قليلة جدًّا، مشيرًا إلى ما ذكره المؤرّخ السيّد عبيد مدني في التعريف بالرّسالة ومؤلِّفها. [انظر العرب، ج12،11، الجماديّان، سنة 1406ه، يناير- فبراير 1986م، ص851]. * وبالعودة إلى المقالة التي كتبها الأستاذ موسى إقبال بعنوان: «دراسة تحليلية نقديّة لكتاب (تحفة المحبّين والأصحاب في معرفة ما للمدنيّين من أنساب)»، وتعّرض فيها عن دور طائفة المغاربة في الإدارة والجيش العثماني في الحجاز، فإنّني لم أعثر على اسم أسرة «آل موسى» ضمن الأسر المجاورة ذات الجذور المغربيّة. [انظر: مختصر القرميّة، محمّد محجوب بن أبي بكر العمري الحجّار، تحقيق محمّد عبدالله آل رشيد، ط11، 1430ه، ص: 94 - 110]. * ولعلّ ممّا أهتمّ به من معلومات تضمّنتها هذه الرّسالة الفريدة - التي علمت أنّ الزميل الكريم والمتخصّص في الدراسات التاريخيّة الدكتور يوسف بن أحمد حواله يعمل على تحقيقها تحقيقًا علميًا يتناسب مع أهمّيتها، أقول: إنّ اهتمامي سوف ينصبّ على المؤسّسات العلميّة والثقافيّة والشخصيّات الأدبيّة التي ورد ذكرها في الرّسالة حتّى وإن لم يتوقّف المؤلِّف عند تلك الشخصيّات. * يذكر المؤلّف عن المكتبات بالمدينة وما يطلق عليه باللّفظ التركي - آنذاك - «الكتبخانات؛ فيقول: واحدة في ديار العشرة تجاه بيت النّائب، للمرحوم عارف حكمت بك شيخ الإسلام (بالأسلامبول) سابقًا، وهي أنظم الكلِّ وأعلاهم. وربّما قصد من عبارته تلك أعلى مكتبات المدينة شأنًا وأكثرها تنظيمًا، والمؤلّف يستخدم بعض الكلمات الدارجة أو العاميّة، وهو مأخذ من المآخذ ذكره السيّد عبيد مدني عند حديثه عن أسلوب المؤلّف وتوقّف عنده، وكانت الحقبة التي دوّن فيها المؤلِّف رسالته من الحقب التي ضعف شأن اللّغة العربيّة الفصحى فيها، وربّما كانت اللّغة المستعملة في الدواوين – آنذاك - هي اللّغة التركيّة. * والمؤلّف لم يورد بالكامل اسم واقف هذه المكتبة الهامة في تاريخ العلم والمعرفة بمدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فهو أحمد بن عارف حكمت الحسيني (1200 - 1275ه / 1785 - 1858م)، وقد أوقف هذه المكتبة على المدينة سنة 1270ه. * ولعلّي تعرّضت لشيء من سيرة هذه الشخصيّة العلميّة الهامّة ومآثرها المتعدّدة في مقالة نشرتها على صفحات هذا الملحق الأغر بتاريخ 9 جمادى الأولى، 1432ه، وسوف يتواصل حديثنا عن بقيّة المكتبات التي أشار إليها في شيء من الإيجاز المؤرّخ علي بن موسى في رسالته، التي تحتاج لوقفات علميّة متعدّدة محاولين رصد الحركة العلميّة والتاريخيّة والأدبيّة في بيئة المدينة المنوّرة في تلك الحقبة الهامّة من تاريخها. (*)استاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز