منذ أكثر من أربعين عاما قرأت الرواية المسرحية الشعرية "الإزار الجريح" التي جسّدت في أجمل عبارة قصة آخر ملوك الغساسنة، جَبَلة بن الأيهم. وأراني مازلت أحفظ بعض نصوصها، لجمال سبكها وروعة تصويرها مما جعلني أعيش الحدث وكأنني بين أشخاصها. والغساسنة، أو بنوغسان، عرب كانوا في عصر الجاهلية يعيشون في شمال الجزيرة العربية. ولقربهم من دولة الروم، فقد استخدمهم الرومان فكانوا يعيشون تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية على حدود بلاد الشام، بل إنهم أخذوا النصرانية من الروم، وكانوا يدينون بها. ولما جاء الإسلام وبدأ ينتشر، ووصلت الفتوحات الإسلامية إلى الشام، دخل ملك بني غسان في الإسلام. وفي عصر الفاروق رضي الله عنه وفد مع قومه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. هذه الشعيرة التي يتساوى فيها الناس، فالكل يلبسون الإحرام، ويمشون متجاورين، فلا تعرف الرئيس من المرؤوس، ولا السعيد من المتعوس. فهم سواسية، لباسهم أقرب ما يكون من لباسهم يوم يوسّدون الثرى، فهناك أيضا لا فرق بين غني وفقير، أو سيد وغفير. ومن سوء حظ جبلة أنه في أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزارَه أعرابيٌ من بني فزارة، فانحل الإزار. ولما كان ملك غسان حديث عهد بالإسلام، فإنه لم يدرك أنه والأعرابي سواء، فما كان منه، وقد تملكه الغضب، إلا أن رفع يده فلطم الأعرابي لطمة قاسية هشمت أنفه. فأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكوه. فاستدعاه ابن الخطاب فاعترف بفعلته. فخيّره عمر رضي الله عنه بين أن يرضي الفزاري، أو أن يقتص منه، فالعين بالعين، والسن بالسن. فوقع ذلك على جبلة وقوع الصاعقة. إذ كيف يسوّي بينه وبين الأعرابي؟ فقد ظن أنه سيحظى عند أمير المؤمنين بمكانة فريدة تجعله فوق القانون، فقال لعمر: كيف ذاك؟ هو سوقة، وأنا عرش وتاج؟ فأفهمه عمر بأن الإسلام سوّى بينهما. نعم كان يمكن أن يحظى عند أمير المؤمنين بمنزلة خاصة، فيعيّنه واليا على قومه، أو مستشارا عنده لخبرته في إدارة الناس. أما في حدود الله وفي حقوق العباد، فإن جبلة لم يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسم: " وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ولم يسمع بقولة عمر المشهورة وهو يقتص للقبطي من ابن عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ لعل جبلة ألمح إلى أنه سيعود إلى دينه، ففوجئ بأن حد الردة ينتظره. فأدرك ابن الأيهم أن لا فائدة من الجدال مع أمير المؤمنين، الذي لا يعرف الهوادة في تطبيق شرع الله وفي تطبيق المساواة بين الناس، فطلب من أمير المؤمنين أن يمهله إلى الغد ليفكر في الأمر، لاسيما وأن الأعرابي رفض التراضي، ولم يرغب في غير القصاص، ولعله أراد أن تقول العرب عنه: إنه الذي هشم أنف ملك غسان. وكان جبلة قد بيّت أمرا قاده إليه تفكيره، فقد غادر مع حاشيته تحت جنح الظلام، وفرّ هاربا، ولحق بقيصر، وعاد إلى دينه. لكنه بعد ذلك ندم على ذلك أشد الندم، لاسيما عندما كان عليه أن يفر مع هرقل حيثما تراجعت جيوشه أمام الفاتحين. ويُنسبُ له في ذلك قصيدة يقول فيها: فياليت أمي لم تلدني وليتني رجعتُ إلى القول الذي قال لي عمر وياليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنتُ أسيرُ في ربيعةٍ أو مُضَر وياليت لي بالشام أدنى معيشةٍ أُجَالسُ قومي ذاهبَ السمع والبصر أما صاحب الرواية الشعرية سليمان العيسى فيصف تلك المواقف وصفا جميلا فيقول على لسان عمر رضي الله عنه: يا بنَ أيهَمْ! ليسَ في قبضَتِنا إلاَّ سِلاحْ في يمينِ الله لامعٌ حَدَّاهْ اسمُهُ الحَقُّ الصُّراحْ وهوَ، لو تعلَم، أمضَى من سيوفِ الأرضِ، من صَولَتِها، طُولا وعَرضا قدْ حَملناهُ رسالَهْ وسَلَلناه عدالَهْ فذَوُو التَّاجِ، وأَبناءُ السَّبيلْ تحتَ هذي الدوَّحَةِ السَّمحاءِ أَكفَاءٌ، سَواءٌ في المَقيلْ ثم يقول على لسان جبلة: لستُ مَنْ ينكِرُ أوْ يكتُمُ شيَّا أنا أدَّبتُ الفتى، أدْركتُ حقِّي بيدَيَّا فيرد عُمر: أيُّ حقٍّ، يا بنَ أيهَم؟ عندَ غيري يُقهَرُ المُستضعَفُ العافي ويُظلمْ عند غيري جبهةٌ بالإثمِ، بالباطلِ، تُلطَم نزَوَاتُ الجاهليَّةْ ورِياحُ العُنجُهِيَّهْ قد دَفنَّاها، أقَمنا فوقها صَرحا جديدا وتساوَى النَّاسُ: أحرارا لَدَينا وعَبيدا يأخُذُ الحقَّ القَضاءْ ويقول على لسان جبلة وهو هارب يخاطب نفسه والأشباح من حوله: لستُ مَنْ يَحْمِلُ عارا لستُ مَنْ يرضَى إسارا جبهَةٌ شَمَّاءُ في وَجهِ القَدَرْ كادَ أن يغرِسَها في الأرضِ، في الطِّينِ عُمَرْ لستُ أرضى أنْ يَخِرَّ النَّجمُ أرضا لستُ أرضى هو سُوقَهْ وأنا عَرْشٌ، وتاجْ عَبَثاً حاورتْ وسُدىً داوَرتْ لم يُزَحزِحْ رأسَهْ الصَّوَّانُ، لم يُجْدِ اللَّجَاجْ أحداث الربيع العربي هي التي جعلتني أتذكر تلك الرواية الشعرية، فكأن الخلق متشابهون، وكأن جبلة بن الأيهم ليس فريدا في تصرفه، فرأينا من استصغر شعبه فقال لهم: من أنتم؟ ثم وصفهم بالجرذان، وتوعدهم بأن يتعقبهم زنقة زنقة ليقضي عليهم، فذهبت عباراته كلها أمثالا يرددها الصغار والكبار. ثم إنه اضطر للتخفّي تحت مطارقهم، ويشاء الله أن يستنقذوه من المكان الذي تعيش فيه الجرذان. وبقي اثنان، أحدهما يطلب الحصانة طول العمر! ولعمرك إن أعطيها فهل ستكون له درءا يوم القيامة؟. وأما الآخر، ولكونه طبيبا فقد وصف شعبه بالجراثيم! ولقد أعطي الفرصة تلو الفرصة ليصلح، فمازال يصر مستكبرا كأنه لم يسمع بمصارع الذين خلوا من قبل. ويبدو أن عنجهية جبلة بن الأيهم تسري في العروق، ولات ساعة مندم. وإذا كان ابن الخطاب قد أصرّ على هشم أنف ابن الأيهم، فكيف سيحكم على مَن قتلوا الآلاف ومازالوا يعلنون إصرارهم على الانتصار على السوقة ذوي الصدور العارية الذين أثاروا الضوضاء فأزعجوا السادة؟ * كاتب وأكاديمي تويتر @MNNahas