الهجرة هي الحراك الدائب إلى كل ما يُرضي الله ورسوله عبر الزمان والمكان لعبت الهجرة الدور الحضاري المُؤسَّسي المتميز المُتمَثِّل في التجليات الإبداعية 1) حضارية الهجرة (بمعنى المبارحة المكانية من مكة إلى يثرب) باعتبار الهجرة بمعنى المبارحة المكانية والانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام ... فإنها (أي الهجرة) قد لعبت دورًا دينيًّا وحضاريًاً في: 1.1) نقل المؤمنين من دار الكفر (حيث كانوا فيها لا يتسنى لهم أداء شعائرهم التعبدية (الصلاة) بحرية تامة، جهارًا نهارًا وعلى مرأى من الناس في الحرم المكي) إلى دار الإسلام، حيث تتوفر لهم الحرية الكاملة ليس لأداء شعائرهم التعبدية (كالصلاة والصوم .. إلخ.) فحسب، بل حتى لممارسة دورهم الحضاري في إقامة دولة المدينة الفتية (نواة الدولة المدنية الإسلامية التي ينضوي تحت لوائها مختلف المِلل والأعراق والألوان واللغات)، فضلًا عن مُجرَّد تنظيم شؤون حياتهم في الحدود الضيقة على المستوى الشخصي، والأسري، والاجتماعي (السياسي والاقتصادي). 1.2) تحريرِهِم من الأذى والاضطهاد الذي تعرَّضَهُمْ ولازمَهُم طيلة بقائهم مُسالمين بمكة للدرجة التي أذِنَ على إثْرِهِ لِمَنْ لمْ يَحْتَمِلْ آنذاك بالهجرة الأولى إلى الحبشة فرارًا بدينهم. 1.3) حصول ضمان ودعم كامل من قبائل الأوس والخزرج (أقوى قبائل العرب ذات الشوكة في يَثْرِب) لإقامة الدعوة الإسلامية الحضارية وحماية معتنقيها كسبب وسنة من سُنَنِ الله الفطرية أخْذًا بأسباب استقرار الدعوة ودولتها المدنية الحضارية. 2)حضارية الهجرة (بمعنى الحراك الدائب إلى الله ورسوله) وأما باعتبار الهجرة على أنها هجرة إلى الله ورسوله، بمعنى الحراك الدائب إلى كل ما يُرضي الله ورسوله عبر الزمان والمكان والأحوال وفي أعماق النفس اللوامة لتحقيق النفس المطمئنة ... فإنها (أي الهجرة) قد أحدثت تحولات نوعية حضارية منقطعة النظير، وفق (رؤية معرفية ثقافية إسلامية رشيدة جديدة ... تبلورت مع نزول الآيات المدنية والتطبيقات النبوية التي نجم عنها النظام الإسلامي للدولة المدنية الإسلامية). فهذه التحولات انبثقت بادئ ذي بدء في أعماق النفس المؤمنة فانعكست بالتالي في كل الجهد البشري المبذول وفي جميع مُنجزاته الحضارية التراكمية في ظل نظام الدولة المدنية الإسلامية، على المستوى الشخصي والأسري والاجتماعي والوطني والقومي والاقليمي والدولي. ففي ضوء هذا الاعتبار لمعنى الهجرة الدائبة إلى الله ورسوله، فإنها قد لعبت الدور الحضاري المُؤسَّسي المتميز المُتمَثِّل في التجليات الإبداعية والتحولات الحضارية التالية: 2.1) الحضارية في فكر الهجرة مسكونة ومتجلية فيه، وذلك بارتباطه مفهومًا ضمنيًا بالله (عز وجل) ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالتالي بالإسلام (منهج الله في الأرض) الذي يضمن للمؤمن سعادتي الحياة في الدنيا وفي الآخرة. وهذه الحقيقة إذا استُوعِبَتْ واستقَرَّتْ في القلب هي: سِّرُّ الصيرورة المتواصلة للفاعلية الحضارية الإسلامية في نفس الفرد والأمة المؤمنة. « يا أيها الذين آمنوا اسْتَجِيبُوا للهِ وللرسولِ إذا دعاكم لِمَا يُحْيِيكُمْ .. «. (سورة الأنفال: 24). « نَحْنُ أولياؤُكُمْ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرة .. «. (سورة فُصِّلَتْ: 31). « إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والذينَ آمَنُوا في الحياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ يقُومُ الأشْهادِ». (سورة غافر: 51). « مَنْ عمِلَ صالحًا مِنْ ذكرٍ أوْ أُنْثَى وهُوَ مؤمِنٌ، فلُنُحْيِيَنَّهُ حياةً طيِّبَةً، ولَنَجْْزِيَنَّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يعمَلونَ «. (سورة النَّحْل: 97). « ولو أنَّ أهلَ القُرَى آمنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عليْهِمْ برَكاتٍ منَ السماءِ والأرضِ، ولكِنْ كَذَّبُوا فأخَذْنَاهُمْ بِمَا كانُوا يكسِبُونَ «. (سورة الأعراف: 96). ولعله من المستحسَن تبيان ما نعنيه من (الحضارة) و (الحضارية) و (الحضاريّ): 2.2.) والحضارة (بفتح الحاء أو كسره) هي: كلمة مشتقة أصلًا من حضر، يحضر (كفعل)، حُضورأ، وحِضارةً (كمصدر). والحُضُور: نقيض الغَيْبَة (1). وحَضَرَ يأتي بمعنَى (شَهِدَ). وعليه فإن الحضور والحضارة يكونان بمعنى الشهادة والشهود(2). وقد جاء في القرآن الكريم: «إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ» (سورة البقرة: 180). «وَإذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى» (سورة النِّساء: 8). «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (سورة البقرة: 185). والحضارة: تعني الإقامة في الحضر (3) وهي حياة الحضر، والمدنية: تعني الإقامة في المدينة وهي حياة المدينة، بالاصطلاح المتعارَف بين الناس. ومن المعروف علميًّا أن المصطلح لا يخرج مضمونه عن المعنى اللغوي الحقيقي له؛ لأن الكلمة يُقْصَدُ منها في الأصل (لغة) معناها ومفهومها الحقيقي، بمعنى أن مفهومها الاصطلاحي إنْ وُجِدَ يحب ألاَّ يَنِدَّ عن مفهومها ومعناها الحقيقي ولا يخرج عن إطاره. ومِنْ ثَمَّ تكون الحضارة هي: الإقامة في الحَضَر شكلًا، وحياة الحضر والشهادة والشهود المبني على الشهادة بوحدانية الله ورسالة نبيه (خاتم الأنبياء والرسل مضمونًا. وهي من ناحية أخرى تكون: موضوع ومجال هذا المفهوم الاصطلاحي الإسلامي للحضارة ويدور في إطاره. فكأنَّ فعلَ الحضور (الشهود) يكون لازمَ الحضور (الشهادة والشهود) من قِبَلِ فاعل الحضور (الشاهد). وكل أفعال الإنسان يعكس مدى حضوره وشهودِهِ بتوحيد الله الواحد الأحد، الفرد االصمد، وبرسالة خاتم الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وآله وسلم). فبهذا المفهوم الاصطلاحي الإسلامي تكون: الحضارة (كفعل وإنجاز) هي: الجهد البشري المبذول لعمران الأرض بجانبَيْهِ (الثقافي الفكري، والمدني المادي)، وِفقَ رؤية معرفية ثقافية رشيدة ذات منهجية وسطية إسلامية. والحضارة (كثمرة جهد بشري) هي: ثمار جهد وإنجاز بشري لعمران الأرض وفق (رؤية معرفية ثقافية إسلامية رشيدة) (4). 2.1.2) الحضارية: هي نسبة إلى الحضارة (بمفهومها الإسلامي الرشيد العميق). 2.1.3) الحضاري: ففي ضوء ما تقدم ... يمكن القول بأن الحضور والشهود (بدلالاته المعنوية ونتائجه التراكمية المُنْبَثِقة أصلًا من الشهادة بوحدانية الله وما يترتب عليها من مقتضيات، حسب الرؤية المعرفية الثقافية الإسلامية الرشيدة) يَنْتُجُ عنه الإنسان الحضاري، وهو: [ أنموذج إنساني» تََسْتَبْطِنُ نفسُه قِِيََمََ التوحيد موالاة لمولاه الخالق، وينطلق منها في هجرة دائبة (بمفهومها الإيماني الحضاري) كبُعْد غَيْبِيّ وحُضُورٍ واقعيٍّ يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون وواضع نواميسه والمتحكِّم في تسيِيرِه. ومن ثَمَّ يلعب هذا الإنسان دوره، ويؤدي رسالته في تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون في عِمْرَان أرضِه وتحسينِها وتزْجِيَةِ معاشِ الناس فيها، وتحقيق تمام التمكين عليها والانتفاع بخيراتها وحُسْنِ التعامل مع الْمُسَخَّرَات في الكون وبناء علاقة سلام معها ومع الإنسان (5) ]. 2.2) تحَقُّقُ حضارية الهجرة الدائبة وصيرورتها المتواصلة في الحياة لدى الرعيل الأول من جيل الصحابة (رضوان الله تعالى عليهم) وأجيال القرون الثلاثة الأولى بعد عهد النبوة. فعلى الرغم من حاجة الدعوة الإسلامية بادئ أمرها بمكة إلى موطن تقيم فيه وتنطلق منه، وحاجتها إلى دولة أو قبيلة (مثل قريش) ذات شوكة تُؤْويها وتُدعِّمُها، وعلى الرغم من تعنت قريش وأذاها للمؤمنين، ودخول عدد لا بأس فيه ممَّنْ دخلوا الإسلام خلال ثلاثة عشر عامًا (أكثر من نصف مدة البعثة النبوية) ... لم يعمد الإسلام في المقاومة إلى القوة والعنف مثلما يحدث عادة في هذا العصر من بعض الدعاة المتشددين مع أهليهم ومواطنيهم بل أمِرُوا بكفِّ أيديهم عن القتال، وبإقام الصلاة لزيادة الإيمان، وإيتاء الزكاة لتقوية عُرَى الإخاء في فترات الشدة ... لذلك استمرت الدعوة إلى الإسلام سلمية حتى اضطر البعض إلى الهجرة لشدة العنت والأذى الذي بلغ بالمؤمنين من قريش وبرسولهم الذي عزمت على قتله؛ وذلك عملًا بقوله تعالى: « ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلْهُمْ بالتي هي أحْسنُ «. (سورة النحل: 125). « ألَمْ تَرَ إلى الذينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمْ وأقيمُوا الصلاةِ وآتُوا الزَّكاةَ «. (سورة النساء: 77). ثم إنها (أي الهجرة) حتى بعد قيام الدولة المدنية الإسلامية الأولى واتساعها إلى أن صارت مترامية الأطراف في عهد الخلفاء الراشدين والأموي والعباسي ... كانت الدعوة سلمية من خلال سلوكيات الدعاة الحضارية القويمة والمُتناغمة مع الفطرة السويَّة في تناول جميع أمور الحياة الدينية والدنيوية، الأمر الذي أثار إعجاب عِلْية الناس (قبل العامة) في البلاد التي يرتادها هؤلاء الدعاة الأوائل. والدليل على ذلك: أنَّ كل البلدان التي دخلت الإسلام في شرق آسيا ابتداء من الهند وسيام (تايلاند) والصين وماليزيا وإندونيسيا وحتى الفلبين إنما دخلته عبر ملوكها الذين أسلموا أولًا ثم تبعتهم أقوامهم وهذا مما يدل على حضارية الدعوة كخصيصة ملازمة في طبيعتها. وما لجأ المسلمون إلى الحرب في الفتوحات الإسلامية إلا عندما عَمَدَتْ هذه البلدان قبل فتحها إلى اضطهاد مُواطنيها (الذين أسلموا على أيدي الدعاة عن طواعية)، ومحاربتهم ليعودوا عن الإسلام؛ وذلك لأن الأصل هو: (لا إكراهَ في الدين) : « لا إكْرَاهَ في الدِّينِ «. (سورة البقرة: 256). 2.3) الحراك الدائب من الإنسان المسلم (أفرادًا وجماعات) لبلوغ مرتبة الإحسان كأعلى مراتب الدين؛ إذ أن مراتب الدين ثلاث، فهي حسب ترتيبها التصاعدي (الإسلام، فالإيمان، فالاحسان). كما يفهمه الفقهاء: 2.3.1) من قوله تعالى: «والذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيّنَّهُمْ سُبُلَنَا، وإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنينَ».(سورة العنكبوت: 69). ويُلاحظ في هذه الآية أربعة توكيدات؛ لتؤكد على هَدْيِ الله (عز وجل) و على معيته مع الذين مارسوا في حياتهم المجاهدة بأنواعها في سبيل إتيان ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه: توكيدان (لام ونون التوكيد في « لنهدينَّهم»)، وتوكيدان آخران (إنَّ ولام التوكيد لمعية الله «تعالى» مع المحسنين) ... ثم يتم تتويج هذه التوكيدات الأربعة بإطلاق صفة (الإحسان) عليهم. ولا غَرْوَ في ذلك؛ لأن المجاهدة ضربٌ من الإحسان في العمل والأداء والسلوك، والإحسان هو إتيان الحََسَنِ والجميلِ من الفعال والأعمال والأخلاق. ما أروع .. وما أبدع .. وما أجمل .. هذه الآية مضمونًا وتعبيرا... !!! «إنََّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبَى، ويَنْهَى عنِ الفحشاءِ والمُنكَرِ والبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لعلَّكُمْ تذكَّرُونَ». (سورة النساء: 90). يخبر الله تعالى في الآية أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى: [ وإنْ عاقبتُمْ فعاقبُوا بمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بهِ، ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خيرٌ للصابرينَ] (النحل: 126)، وقال: [ وجزاءُ سيِّئَةٍ سيِّئَةٌ مِثْلُهاَ، فمَنْ عفاَ وأصلحَ فأجْرُهُ على اللهِ ] (الشورَى: 40)، وقال: [ والْجروحُ قصاصٌ، فمَنْ تصَدَّقَ بِهِ فهُوَ كَفَّارةٌ لَهُ ] (المائدة: 45) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا من شرعية العدل والندب (6). وهكذا فإن العدل هو الحد الأدنى، والإحسان هو الحد الأعلى ... مما هو مطلوب من المسلم في أدائه وإدارته لأمور الدنيا والآخرة. وقال عكرمة : قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوليد بن المغيرة [ إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعدل والإحسانِِ ] إلى آخرها، فقال : يا ابن أخي أعد، فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر، وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعد فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة . . . وذكر تمام الخبر . وقال ابن مسعود : هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب . وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل ... الإحسان، وزكاة القدرة ... العفو، وزكاة الغنى ... المعروف، وزكاة الجاه ... كتب الرجل إلى إخوانه (7) . 2.3.2) من الحديث المشهور الطويل برواية عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي سأل فيه حبريل (عليه السلام) الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإسلام والإيمان والإحسان، ومن الأحاديث النبوية العديدة التي تحثُّّ على الإحسان، وعلى عدم تفويت فرصه، بل الحرص على اقتناصها (أي اقتناص الفرص) ... أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم): « الإحسانُ أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإنْ لمْ تكنْ تراهُ فإنَّ اللهَ يراك». (رواه البخاري). «إنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ «. (رواه مسلم). « نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ». (رواه البخاري). « إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ( أخرجه البخاري، صحيح / الألباني). « خيرُكُمْ خيرُكم لأهلِهِ، وأنا خيرُكُمْ لأهلي «. (أخرجه الترمذي) 2.4) لُحْمَة الأخُوَّة بين المهاجرين والأنصار تحت مظلة (المؤاخاة)، نتيجة لاستيعابهم المعنى الحضاري للهجرة كحراك دائب إلى الله ورسوله: فقد تَشكَّلََ عن هذه اللحمة كُتلة صلْبَة تتكسَّر على صخرتها كلُّ التحديات والعقبات والمعوِّقات التي تعرَّضَت لها (دولة المدينة)، وكما نشأ عنها (أي عن اللحمة) أرضية خصبة تنمو وتترعرع فيها قيم الإسلام وتزكية النفس الإنسانية، وقواعد التشريع وأحكامه التنظيمية التي أفضت إلى التعاطف الأسري، والتكافل الاجتماعي، والوفاق الوطني، والسلم البشري في ظل النظام الإٍسلامي الحضاري الذي أبقى على التعددية وأرسى حق المواطنة العامة والكرامة الإنسانية على أساس من مبادئ: الحرية، والعدالة وتكافؤ الفرص للجميع على قدم المساواة في الدولة المدنية الإسلامية الأولى (بالمدينةالمنورة) التي امتدت متنامية حتى أضحت مترامية الأطراف لعشرة قرون ونيف، زاهية بروح الحضارة الإسلامية، دون افتئات أو تجاوز على حقوق الغير على المستوى الفردي والفئات الأخرَى المتنوعة (الدينية، والعرقية، واللونية، واللغوية ... إلخ.) على المستوَى الاجتماعي. 2.5) وَحدة النسيج المجتمعي والوطني على مستوى المواطنة العامة بقبول الفئات غير الإسلامية للعيش عن رضا تام (دون إكراه) في ظل دولة المدينة (الدولة المدنية الإسلامية؛ لِماَ لمسوه خلاله من توفر الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص. والشواهد التاريخية متعدِّدة على ذلك. على سبيل المثال: دعوة أقباط مصر للانضمام في الدولة الإسلامية فرارًا من ظلم الحكم الروماني البيزنطي (المسيحي) الذي كانوا يرزحون تحت نيره (8)، وإنصاف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) للشاب القبطي الذي حاز على قصب السبق فائزًا على ابن عمرو بن العاص الذي ضربه وقال له: [ أنا ابن الأكرمين ]؛ إذْ مَكَّنه من الثأر منه. 2.6) قيام أنموذَج مؤسَّسي ريادي لمجتمع مدني ودولة مدنية إسلامية متعددة الفئات (الدينية، والعرقية، والقبلية، واللغوية، واللونية، والثقافية) ... تتوفر لها الأركان (المقومات) الأربعة الأساسية لقيام الدولة (بالمفهوم السياسي المعاصر) وهي: 2.6.1) رئاسة الدولة: فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول للمسلمين (بالرسالة الربانية)، ورئيس للمسلمين ولغير المسلمين من اليهود والمشركين المعاهدين بموجب وثيقة المدينة (أول دستور عُرفَ في تاريخ البشرية) الذي يحكم العلاقة بين الرئيس (الحاكم) والمحكومين (الشعب) من جهة، وبين المحكومين والفئات فيما بينهم، مما لهم وما عليهم على أساس من المواطنة العامة المشتركة. 2.6.2) الشعب: ويتكون من المسلمين (المؤلف من المهاجرين والأنصار وغيرهما فيما بعد)، وأهل الذمة من اليهود، والنصارى، والمعاهدين من المشركين (قبل نزول الآيات الأولى من سورة التوبة التي حكمت بإتمام عهدهم إلى مدتهم). 2.6.3) الأرض ذات الحدود الإقليمية: (المدينةالمنورة وما جاورها من القرى والقبائل العربية التي انضمت إليها عبر حملات السرايا). فلما قدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب، غيرها إلى (المدينة). وذلك لسبَبَين: أ ] لأن يثرب معناه الملامة الشديدة المصحوبة عادة بالتقريع. لعلنا نذكر قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة: « يأ أهل مكة أو يا معشر قريش .. ما تظنون أني فاعلٌ بكُمْ ؟؟؟ ... قالوا: خيرا .. أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم. قال: لا تثريب عليكم اليوم .. اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء « (9). لا تثريب = لا ملامة ولا تقريع. ب ] في كلمة (المدينة) إشارة لطيفة إلى أن الحياة الجديدة في المدينة قادمة إلى حياة مدنية (أي حضارية). والمسلمون فيما بعد أطلقوا عليها (المدينةالمنورة). 2.6.4) وثيقة المدينة: ( ميثاق المدينة ... أول دستور وعقد اجتماعي في تاريخ البشرية) ... في ظل النظام الإسلامي. وكانت هذه الدولة المدنية الإسلامية القائمة على هوية الحضارة الإسلامية لم يُعْهََدْ عليها افتئات أو تجاوز على الهويات الأخرى. وهذه الحقيقة هي: سِرُّ استمرارها متماسكة إلى فترات أطول من نظائرها في تاريخ الدول والحضارات الإنسانية الأخرَى. الهوامش (1) لسان العرب لابن منظور: (4/196). (2) حول أساسِيَّات المشروع الإسلامي لِنَهضة الأمة للدكتور/ عبد الحميد الغزالي : (228 بتصرف). (3) لسان العرب لابن منظور: (4/197). (4) الإسلام ومنطلقات المُشترَك الحضاري البشري للدكتور/ حامد أحمد الرفاعي: (14 بتصرف). (5) حول أساسِيَّات المشروع الإسلامي لِنَهضة الأمة للدكتور/ عبد الحميد الغزالي : (229 بتصرف). (6) تفسير ابن كثير: المكتبة الإسلامية في جوجل. (7) تفسير القرطبي: المكتبة الإسلامية في جوجل. (8) الأقباط ... هل ساعدوا المسلمين في فتح مصر، للدكتور/ نبيل لوقا بباوي: (بتصرف) في جوجل. (9) سيرة ابن هشام: (4 / 54 – 55).