لولا قانون الفناء وما ينتج عنه من إحساس بالفقد، لتغيرت طبيعة كل العلاقات الإنسانية ولتبدل شكل كل المشاعر الحميمة. مشاعر الحب والتعلق والاحتياج والارتباط، كلها مدينة لقانون الفقد. تصور لو أن الفقد لم يكن هو المصير المحتوم لأية علاقة إنسانية، فكيف يمكن أن يكون شكل جميع العلاقات؟ بالتأكيد ستغلب صفات البرود والإهمال والزهد على جميع العلاقات على اعتبار أن الطرف الثاني سيكون متوفرا دائما وعند الحاجة.. وبلا نهاية. قانون الفناء الذي يتسبب في وجود هاجس الفقد، هو الذي يمنح العلاقات والمشاعر حرارتها وحيويتها وجمالها وخصوصيتها. إحساسك بانك راحل في يوم ما أو أن الطرف الآخر هو الذي سيرحل ويتركك وحدك، هو الذي يدفعك إلى التعلق بالأشخاص، وهو الذي يجعلك تحس بالتوق والشوق لحضورهم، وبالفقد أثناء غيابهم. الموت بشكل ما هو المسئول عن جميع المشاعر الجميلة التي نكنها لأحبائنا. إنها إحدى الحقائق التي تؤكد على التداخل العجيب بين ما يبدو للوهلة الأولى في قمة التناقض: الحياة والموت. لكنها الحقيقة، وهي حقيقة تسري على علاقات الإنسان ليس فقط بالأشخاص الذين يحبهم، ولكن أيضا بالأشياء التي يحبها. تصور لو أن منظر الغروب لم يكن محدودا بفترة زمنية قصيرة ولم يكن خاضعا لقانون الفناء الذي يُمارس عليه كل يوم، فهل ستجد شخصا مغرما بتأمل منظر الغروب في الدنيا كلها؟ وتخيل لو أن مقصلة الكون قد تعطلت عن العمل وأن فصول السنة تحولت جميعها إلى فصل الربيع، فهل ستجد من يعشق الربيع ويكتب فيه الأشعار ويؤلف من أجله السيموفونيات كما فعل بيتهوفن في سيمفونيته السادسة المسماة بالسيمفونية الريفية؟ ربما هذا ما جعل نزار قباني يقول في إحدى قصائده لحبيبته بأنها أجمل من عودة نيسان، لا أجمل من نيسان نفسه. والعودة هنا تشير إلى البعث وإلى كل ما يسبق العودة أو البعث، من مشاعر سلبية ومعاناة تتراوح بين الانتظار الممل والصبر الطويل والتعايش مع آلام الشوق والحرمان.. وجميع هذه العناصر تجعل من العودة أو البعث، أمرا أجمل وأشهى بكثير من التواجد العادي الذي لا تسبقه كل تلك المشاعر المريرة. إنها الفرحة بحلول أو تواجد من نحبه، والفرحة بزوال أسباب المعاناة الناتجة عن فراقنا لمن نحب. لولا الفقد لما احتاج الإنسان لذاكرته وخياله ليستعين بهما على الغياب. ولو لم توجد الذاكرة والخيال لكان وجود البشر منقوصا ومحدودا بكل معنى الكلمة.