اجتمعت عند الفنانة العربية (فيروز) مواهب قلّ أن تجتمع عند غيرها، فتناغمت ألحان وكلمات «الأخوين الرحباني»، مع طبقات صوتها غير المسبوقة، وقدرتها الفائقة على الغناء ب «صوت مستعار»، في لوحة فنية نادرة، رُسِمت بريشة أشعار حالمة، ومفردات رومانسية، ومعاني حب عذرية، وهدير أنغام رقيقة، أضفى عليها صوت «فيروز»، دفءَ أيّام الصيفية، وذكرى «ليالي الشمال الحزينة»، ونسيم الهوى «من مفرق الوادي»، فسرق العاشقين «من عزّ النوم»، وسار بهم على «جسر اللوزية»، في «طريق النحل» جارهم القمر، والحوْر العتيق. وأضحت فيروز، سفيرة الثقافة اللبنانية والعربية إلى العالم، ليس بأغانيها فحسب، بل أيضا بأفلامها ومسرحياتها، التي صيغت بأسلوب سياسي واجتماعي هادف، واستغلال رائع لمفردات الطبيعة البسيطة، في أسلوب درامي جذاب، بلغة سهلة مُمتنعة، ولكْنةٍ لبنانية حالمة. لكن أعظم ما يُحسب ل «فيروز»، أنّها لم تغنِّ أبدا لأي رمزٍ سياسي، أو شخصيةٍ مُتنفّذة، وضربت مثالا على الارتباط بالأرض، فهي لم تهاجر حتى بعد إصابة بيتها أثناء الحرب، ونأَت بنفسها عن الانحياز لفئة أو حزب سياسي أو عرقي، على الرغم من التزامها الديني المعروف عنها، فتواصلت مع الشعوب العربية، ولمست مشاعرهم، وغنّت للعرب المهاجرين في بلدان الهجرة، وعبّرت أغانيها عن الآلام العربية المشتركة، والقضايا السياسية العامة، وتناولت في طربها الأصيل، مفردات: البيت، والضيعة، والأرض، والوطن، والهجرة، والعوْدة، وأنشدت عن لبنان، ودمشق، والاسكندرية، ومصر، ومكة، والقدس، كما ناقشت مسرحياتها الفُلكلورية، العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والوطن والمواطن، ومجّدت البطولة والكرامة ومقاومة الاعتداء، ودعت للوحدة والنضال، وأحرجت الظالمين والطغاة في كل عصر، بالتزامها تقديم المقاومة الشعبية بصورة سلمية. لا شك أن «فيروز» ثمرة موهبة نادرة، وبيئة اجتماعية وسياسية مُضطربة، ورؤية راقية، إضافة إلى شخصية مُتّزِنة لها رصيد معتبر من المثابرة والالتزام، تطوّرت إلى إنتاج متميّز غير مألوف، مدعوم بسلسلة أحداث مواتية، ووجود الشخص المناسب، في الوقت والمكان المناسبين، فملكت قلوب الملايين من أبناء الوطن العربي، وخاطبتهم في سِلْمهم وحُروبهم وثوراتهم، فأضحت بحق «فيروز الوطن».