يعد فيلسوف عصر النهضة الفرنسي جان جاك روسو هو أول من دعا من بين جميع الفلاسفة، إلى تتويج الفطرة أو الحدس على قمة الهرم المعرفي للكائن البشري. روسو هاجم العقل ووصفه بأنه كائن حديث البناء ومتقلب خدّاع، والأهم هو أنه كثيرا ما يصطدم بمشاعرنا التي يرى روسو ضرورة الانحياز إليها في حالة وجود هكذا صدام. لكن روسو وفي غمرة تشكيكه في العقل كأداة معرفية نسي أنه توصل لكل استنتاجاته الخاصة بالعقل عن طريق العقل نفسه ! لقد كانت كل ملاحظات روسو التي حدّت من أهمية العقل، ناتجة عن تأملات وملاحظات عقلية صرفة. مما يعني أن تلك الملاحظات التي لا تخلو من وجاهة، كانت عبارة في حقيقتها عن نشاط عقلي في المقام الأول. اللغة نفسها منجز عقلي، واللجوء إلى اللغة للتشكيك في العقل، يعني اللجوء للعقل للتشكيك في نفسه. صحيح أن للغة آفاقا مفتوحة على عوالم الروح والوجدان، ولكن اللغة لا تمتلك القدرة على مخاطبة الروح أو الوجدان مباشرة بل عن طريق وسيط هو العقل. ولأن اللغة لا تمتلك خاصية التوجه إلى الروح أوالوجدان مباشرة، فإنها تحتال على ذلك باستخدام الأساليب البلاغية القائمة على المجاز وتقريب المعاني عن طريق تأطيرها في الصور والتشبيهات. كل الأفكار والمناهج الفكرية التي حاولت تقويض سلطان العقل، كانت تعتمد على العقل كوسيلة لتحقيق ذلك الغرض..! منهج روسو كان هو المنهج الوحيد الراقي والعميق بين المناهج الفكرية العديدةالتي دعت لهدم سلطان العقل. المناهج الأخرى في الأغلب انحدرت نحو الخرافة وما يشبه الشعوذة الفكرية لتصل إلى ذلك الغرض. وما لم ينتبه إليه أصحاب تلك المناهج، أن الخرافة نفسها منتج عقلي الغرض منه تقديم تفسيرات لما عجز العقل عن تفسيره.