في السرديات الروائية والقصصية تستهويني كثيرًا عوالم الشخصيات النفسية والثقافية والاجتماعية كونها جسورًا تربط الراوي بقارئه، فالنص ينتجه فاعلون اجتماعيون أو سياسيون أو اقتصاديون بهدف التأثير في القناعات أو تغيير المفاهيم كما بين «نورمان فاركلوف»، ومؤخرًا حصلت على مجموعة القاص طاهر الزارعي (زبد وثمة أقفال معلقة) واستوقفني فيها تمثلات الوعي الديني عند شخوصها وتجسيد تلك التمثلات بكل حرفنة واقتدار. في قصة «احتفاء على تخوم الحشرجة» يرد في المقطع الثاني من القصة: (أمي تقول لي: انتبه لا تموت القطط راح تسكن في نارها. هذا التحذير جعلني خائفًا جدا، وحينما أجد القطط تعتلي السطح لشن هجوم مباغت على الحمام اكتفي بردعها وطردها). يُستشف من جملة البطل / الراوي رغبته في تجاوز العلاقة الجسدية والعاطفية بأمه إلى علاقة معرفية تتوفر لوعيه الديني من خلالها منظومة مفاهيم عقدية ترسم له قواعد وحدود السلوك الجسدي المتقاطع مع سلوكيات الأهل / المجتمع كوسيلة اندماج تؤمن لحاملها عضوية كاملة في الفضاءين الأسري والاجتماعي. يشبه انشداد البطل / الراوي في هذا المقطع إلى أمه انشداد الكواكب إلى الشمس والجزء إلى الكل، فتحت تأثير فائض المقدس الخاص بحقوق الأم ومنزلتها عند الله سمح لأيديولوجيتها الدينية أن تدرك مقاومة العقل لاستقبال المفاهيم الدينية الشعبية والتصورات المجردة، فهو هنا لا يمتنع عن ضرب القطط وقتلها انتقامًا منها لفعلتها الشنيعة بحماماته بداعي أخلاقي وعلمي.. كون الفعل الصادر من القطط منسجما مع قوانين الطبيعة، بل يمتنع عن ذلك لكون الوعي الديني عنده عن النار وتخيله لها بشكل أقرب إلى الأسطورة كان السبب وراء ضبط سلوكه ولجمه وإرسال شحنات الغضب من القطط إلى نفسه مكتفيا بردعها وطردها نتيجة ارتفاع منسوب الخوف من تحقق رؤية أمه لنهاية مساره في الحياة. فالنار في المخيال الديني الشعبي لا حدود لقوتها ولا مكانها تفعل كل شيء بأهلها ومع استدعاء البطل / الراوي للنار الدنيوية المحسوسة تعاظمت خشيته من النار الأخروية المجردة مطابقا بين الصورتين، حيث أصر على الامتناع عن إيذائها مع رغبته الجامحة في ذلك. لعبت أمه دور الوسيط الأيديولوجي الحامل للتصورات الدينية التي تشكل بنية الوعي الفردي والجمعي فنحن هنا أمام مشهد آخر من القصة الأولى، إذ ورد في مقطع آخر: (كثيرًا ما تطلب مني والدتي أن أقرأ على حماماتي القرآن حتى يحفظها الله من القطط والحسد، وكنت أجتهد في قراءة سورة الفلق بجانب القفص وأكررها أكثر من مرة وانفث في ماء الحمامات المعد للشرب). فالبطل / الراوي هنا يقدم مشهدا إضافيا لتشرب وعيه بمفاهيم دينية محملة بطاقة علمية أو فلسفية، فتعويضًا عن ضرب القطط أو قتلها واستحقاقه للنار كما ورد في المقطع الأول نجد الأم تقدم حلًا عمليًا بوعي قاصر عن إدراك ماهية القرآن والسنن الإلهية التي أودعها الله في الكون، ونجد مدى الاستجابة الكبيرة من البطل / الراوي فهو نفذ حرفيًا ما طلبت منه أمه -أي قراءة القرآن خصوصًا سورة الفلق- على حماماته كي يحفظها الله من القطط والحسد، العدوان اللدودان اللذان يؤرقان البطل/ الراوي وأمه، فمجرد القراءة اللفظية كما استوعبتها الأم والبطل / الراوي كانت كافية لتحويل القطط من حيوانات عدوة للحمامات إلى صديقة مخلصة حتى لو أنهكها الجوع، فهنا يمكن الجمع بين النقيضين (القطط والحمامات) كما يقول المناطقة وتعطيل الأسباب، وما على المرء إلا أن يقرأ القرآن فقط والله يتكفل بالاستجابة ليس فقط بإعادة صوغ العلاقة بين القطط والحمامات، بل في الحد من تأثير الحسد وصد مفاعيله. فالحسد كالنار والقرآن جرى تقديمه للبطل / الراوي لا بوصفه مفهومًا علميًا بل بوصفه مفهومًا غامضًا امتزجت فيه المدركات الدينية الشعبية البسيطة مع الأسطورة بحيث غدًا صانعًا لتحولات ومنعطفات اجتماعية نظرًا للإمكانات الهائلة التي بحوزته وقدرته على التعطيل والتلاعب بالقوانين والعلل الكونية الناظمة للكون، فلا قدرة في العقل الفردي أو الجمعي لأهل القرية تزاحم قدرة الحسد ولا اضطراب نفسي أو قلق من شيء كقلقهم من الحسد. تتكشف صور التوتر والصراع بين البطل / الواعي في لحظة ما وبين مستلبيه من عامة أهله حين يصرون عليه بزيارة قبر السيدة زينب في سوريا بدافع الاستشفاء من داء الصرع الملازم له زمن، ففي مقطع من قصة زبد وثمة أقفال معلقة نقرأ على لسان البطل: (أهلي في تلك المدينة الأخرى حيث غابات النخيل التي تنعم بها هم من أشاروا إلى أن أزور هذه السيدة، وأعلق قفلًا في ضريحها وأشرب من ماء الحرم الزينبي فلعل الله يشفيني ببركة هذا المقام من نوبة الصرع التي كنت أعاني منها منذ زمن). المقطع كاشف عن عملية نكوصية حصلت لوعي البطل تمثلت في العودة السريعة للعقل الديني الجمعي وتصوراته لدلالات الرموز الدينية المقدسة باستحضار مآثرها ومعاجزها الكثيرة كشرط لترويض حالة الاستعصاء والممانعة التي أبان عنها المسكوت عنه في ملفوظ البطل في مقطع سابق من نفس القصة بعشقه وانفتاح وعيه على إبداعات أدبية إنسانية عربية وعالمية كنتاج الشاعر السوري أدونيس والروائي التركي باموك والروائي ماركيز في دلالة رمزية واضحة تتيح للقارئ التعرف على ذات البطل عن قرب بوصفه فردًا عقلانيًا علميًا مستقلًا عن أهله بقريته التي تحفها غابات النخيل استقلالًا كاملًا. فنحن هنا أمام قوة اللاوعي واللاعقلانية للبطل حيث استطاعت أن تحتوي وبسرعة غير متوقعة حالة الوعي والعقلانية التي استعذبها البطل واندمج بها وتلذذ بمعطياتها لحظة حصوله على إبداعات محرمة في بلاده، فنجد البطل كما في المقطعين السابقين من قصة احتفاء على تخوم الحشرجة ينساق بسهولة إلى دعاوى اللاوعي مستجيبًا لندائه باستبدال منهجية العقل والفلسفة والعلم بمنهجية العقل الديني الجمعي بتهيئة الجسد للشروع في سلوكيات اجتماعية شعبية تسخر دومًا من التقدم العلمي في مجال الطب ولا تثق به ولا تعتد به قبالة الرموز الدينية المقدسة كتعليق القفل في الضريح والشرب من ماء الحرم على أمل الشفاء من نوبة صرعه. توزعت حالات التلقي للوعي الديني عند أبطال القاص طاهر الزارعي فتحضر الأم في المقطعين الأوليين من قصة احتفاء على تخوم الحشرجة كمصدر أول مطلق ومقدس إذ تقوم باستحضار المفاهيم العقيدية والتصورات الدينية كما دشنها العقل الجمعي اللاواعي وزرعها في عقلية البطل ليتكفل برعايتها كلما احتاج الأمر، بينما نجد الأهل في المقطع الخاص بقصة زبد وثمة أقفال معلقة يتولون هذه المهمة كرغبة هذيانية في تشكيل ملامح البطل العقلية وتحديد نوعية الوعي الواجب ممارسته. برع القاص في تصوير هيمنة اللاوعي الديني على فضاء القرية المعرفي هيمنة مطلقة كحالة وصفية معاصرة تؤمن له إعادة إنتاج سمات التخلف الاجتماعي بنجاح وتمده بعناصر المقاومة الضرورية لأي كائن يحمل منهجية علمية فلسفية مضادة لمنهجية القرية وتعدهم للانتقال إلى ترييف المدن بشكل سلسل، وإذا أريد مواجهة هذه الأزمة الحضارية -حسب القاص- لا بد من تغيير العلة الحقيقية للمعلول وهي الاستجابة لنداء الشاعر حافظ إبراهيم بإعداد الأم إعدادًا دينيًا ذا صبغة علمية وفلسفية تفضي إلى واقع ثقافي جديد يؤسس لنهضة حضارية عربية. (*) ناقد - الأحساء