قد لا يكون مفاجئا للمتابعين أن نسبة كبيرة من مكونات الثورات العربية في كل من تونس و مصر و ليبيا و سواها من دول «الربيع العربي» هم ممن يمكن تصنيفهم سياسياً بالإسلاميين ، حقيقةٌ تؤكدها العديد من الدراسات و التحليلات الغربية ، و تؤكدها قبل ذلك مشاهد سجود الشكر في ساحات الوغى بعد كل إنتصار و تكبيرات و الابتهالات المنطلقة من الحناجر و المآذن مع كل إنتصار و دعاء القنوت و التضرع إلى الله بالنصر قبيل المعارك ، و يؤكد ذلك الثمن الغالي الذي دفعه الأسلاميون من دمائهم في معارك تحرير ليبيا أكثر من أي أحد سواهم. و لأن الإسلاميين و الحركات الإسلامية شاركت في صنع إنتصارات الثورات العربية في كل تلك الدول بشكل خفي أحياناً أو ظاهر في معظم الوقت بل كانت وقودها فإن من حقها مشاركتها في صنع المستقبل السياسي لتلك الدول على قدم المساواة مع المكونات الأخرى ، هذا ناهيك عن أن شعوب المنطقة قد عبرت مراراً و تكراراً و بكل السبل السلمية و الديموقراطية و المدنية بأن خيارها الإستراتيجي الوحيد و هويتها الفطرية التي لا تتخلى عنها ديانة لله رب العالمين هي الإسلام كمنهج حياة و كصانع لحضارة الأمة بين حضارات الأمم تتوق للعيش في كنفه كل نفس مسلمة آمنة مطمئنة، لذا فإن الغرب و بعد إرهاصات النجاح الباهر للثورات العربية المقاومة للإستبداد و الفساد لم يعد يجد من مندوحة عن فكرة التعايش مع مشاركة الإسلاميين في مراكز القوى و إدارة الصراع في المنطقة. قد تشكل حالة رئيس المجلس العسكري لمنطقة العاصمة الليبية طرابلس عبد الحكيم بالحاج و الزعيم السابق للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة و الذي بقيت الإستخبارات الأمريكية و البريطانية تضعه لسنوات طويلة على رأس قوائم الإرهاب و حليفاً لمنظمة القاعدة بل و تواطأت على إختطافه و تسليمه لنظام العقيد الفار معمر القذافي الذي مارس عليه أشد أنواع التعذيب ، تشكل أنموذجاً لهذا التحول الجذري في تعامل القوى الغربية مع القوى الإسلامية بعد أن أصبح ذلك الغرب يحترم دوره في القضاء على نظام القذافي و يصغي لكلامه و خطابه القوى الموجه إلى الليبراليين الليبيين بالداخل و للساسة الغربيين بالخارج على حد سواء بأنه لا يمكن تجاهل مشاركة القوى الإسلامية في المستقبل السياسي لليبيا و إلا كانت لذلك نتائج وخيمة كما ورد في تصريحه التالي الذي نقلته الجارديان البريطانية الأربعاء الماضي ضمن إطار تحذيره من محاولات بعض العناصر العلمانية الرامية إلى إقصاء الإسلاميين ( علينا أن نقاوم محاولات سياسيين ليبيين إستبعاد بعض الذين شاركوا في الثورة ، لأن قصر النظر السياسي هذا يجعلهم غير قادرين على رؤية المخاطر الضخمة من وراء هذا الإستبعاد أو خطورة رد فعل الأطراف التي يتم إستبعادها ) ، كما أكد في مقابلة أخرى مع رويتيرز ( انه يرغب في بناء «دولة مدنية» ديمقراطية في ليبيا وذلك في تصريحات أدلى بها الاحد ترسم رؤية سياسية شاملة بعد 42 عاما من الحكم المطلق للعقيد معمر القذافي ). و كما في ليبيا يبقى مستقبل «الديموقراطية» في مصر و تونس و غيرها بعد أن حررت الثورات كل الأفراد و المجموعات و التكتلات و القوى الإجتماعية بما فيها بل و على رأسها الجماعات الإسلامية من هيمنة الدكتاتورية المطلقة ، يبقى قيد الصنع نتيجة الحراك السياسي من قبل كل الأطياف بما فيها الحركات الإسلامية التي بقيت محظورة في مصر مثلاً لعقود متطاولة ، ففي تونس مثلاً التي ستقام فيها الإنتخابات الدستورية خلال الشهر القادمة و تظهر الإستطلاعات بأن حزب النهضة الإسلامي مرشح للفوز بما لا يقل على 30% من المقاعد مما سيحقق له فوزاً لا يتأتى لأي من الأحزاب الليبرالية أو العلمانية. ( و تلك الأيام نداولها بين الناس ) و ستدول بفضل الله للإسلام بعد الثورات العربية دولة و قد وطن الغرب نفسه على القبول النسبي لهذه الدولة التى لا تزال معالمها حتى الآن غير جلية ، و ستبدي الأيام إلى أي من النموذجين «الديموقراطيين» السائدين حالياً في العالم الإسلامي التركي المرن الأقرب للوسطية الذي يقوده حزب العدالة و التنمية في تركيا الذي حقق الكثير من المنجزات السياسية المحلية و الإقليمية و العالمية كما حقق منجزات تشبه المعجزات في مجالات حرية و رفاهية المواطن ، أو إلى النموذج الإيراني «المتشدد» في الإلتزام بالمذهب الشيعي المعزول عالمياً و الذي يلاقي الكثير من المعارضة الداخلية ، سيؤدي صراع الفرقاء الإسلاميين و الليبراليين في دول الثورات العربية. و نؤمل في الله أن تكون المخرجات أقرب إلى الوسطية المشرقة اللائقة بخير أمة أخرجت للناس ، و كنموذج يحتذى رضي من رضي و سخط من سخط.