تشكل العلاقة بين المعرفة والأدب والمجتمع علاقة اعتماد متبادل في غالبها وتأثر وتأثير فيما بينها، وهذا بالتالي يحدد علاقة الأديب بمجتمعه حسب قوة تجاذب أو تنافر هذه العلاقة، ولا يقلل من ذلك اتسام الأدب أو المعرفة أو حتى الإبداع في بعض منابعها بداية بالذاتية لحين بلورة الفكرة وتشكل الرؤية؛ لأنه من المعروف أن الأدب ظاهرة اجتماعية، إذا ما أخذ بالاعتبار كون المادة الأدبية في غالبها تعود في شكلها الأولي إلى الحياة والمجتمع. و»المبدأ العام في نشأة الأنواع الأدبية وتطورها وفناء بعضها في بعض، أو انقراضها يقوم أساسًا على تطور المجتمعات، إذ لكل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي قيمها الجمالية التي تتجلى في أنواع أدبية بعينها، وفق قدرة وإبداع الإنسان في ذلك مع النظام الاجتماعي. ويمثل العمل الأساس الذي يفسر كل تطور وتغير في الظواهر بما فيها الظاهرة الأدبية والفنية، أي إن الإبداع يتطور وفق تطور العمل ذاته وتحسن وسائله وأدواته». (1) وهذه العلاقات فيما بينها يحدثها وينميها ويوجهها الحراك الاجتماعي وما ينجم عنه من تفاعل بين الفرد والمجتمع الفرد بمساهمته والمجتمع باحتوائه لها وتكثيفها إلى درجة النفع العام ولا يتحقق ذلك إلا عبر المكون الأكبر لمحتوى هذا التفاعل، وهو ما يعرف بالبناء الاجتماعي، وبمكوناته من قيم ومعايير وأعراف ومستوياته المتدرجة لنسيجه وفي إطار الثقافة المجتمعية السائدة. «ويتحقق التكامل في أحسنه من خلال المستويات الثلاث التي تحدد منظومة الأدوار ونصيب كل فرد منها وفي إطار نظام اجتماعي معين، وأيضًا تحديد مستوى الترابط بينها، أي الأهمية النسبية للأدوار ومدى تلاؤمها وتجانسها للانتقال من الحالة الفردية إلى الجماعية، ولتصل إلى المستوى الثالث كأهمها، إذ يمكن اعتباره الكل المؤلف من مجموعة أجزاء تمثلها الأنظمة الاجتماعية المساندة كالنظام (الأسري، والديني، والاقتصادي، والتربوي، وغير ذلك من الأنظمة المستحدثة) والتي في تكاملها تحدث أثرًا في الوظيفة للفرد والمجتمع «.(2) ومن هذا المنطلق ورغم كون المنجز الأدبي أو الإبداعي فردي الصبغة في تناوله الأولي إلا انه قيل «إن للأدب انعكاسات اجتماعية حتى في أكثر موضوعاته خصوصية، فهو نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطًا لغويًا، بل حتى اللغة تفسر من منظور اجتماعي قبل أن تفسر من منظور آخر». (3) وفيما يتعلق بالإرث التاريخي لعلاقة الأدب بالمجتمع فمن خلال نظرة إلى الماضي البعيد وفي اليونان تحديدًا نجد إن الملهمة للفلسفة اليونانية هي ملحمة «الإلياذة والأوديسة» واللافت فيها أن الإلياذة لا تتغنى بعواطف فردية بل بعواطف الجماعة، لدرجة أن العديد من النقاد شكك في كونها من نظم -هوميروس- وحده، كما إن الهوميرية وهي أول عمل أدبي في تاريخ اليونان تمثلت في الإلياذة والأوديسة قرونًا طويلة كأساس للتربية والتعليم وكعماد للمجتمع في قيمه وأعرافه إضافة إلى استلهام فنونه آنذاك، بل لقد سميت ب (إنجيل اليونان) والتي تمثل منها في غير موضع تطور الفرد بفكره وشخصه من التبعية المطلقة للجانب الروحي والماورائيات، وعبر الآلهة في تعددها وأدوارها المتعددة كآلة الحب والحرب والجمال وغيرها والتي لا عقل لها أصلًا، تطور إلى صورة أخرى مغايرة يسيطر فيها عليه العقل كجزء من التفكير الجمعي العقلاني والإرادة الواعية، والاستقلالية التي شكلته كلبنة فاعلة في محيطه وبيئته الاجتماعية، والإقبال على الحياة التي عزف عنها منفردا والتكيف مع الجماعة والتعاون المتبادل والمثمر لتفعيل الحراك المجتمعي بكافة سبله وأنواعه. وهناك -المنهج السقراطي- الحواري الفلسفي الذي رسخ أدبيات النقاش وجدوى الحوار الديمقراطي الشفاف والذي أراد به صاحبه صادقًا الأخذ بيد الناس في مجتمعه ليزيل عنهم غشاوة الجهل ولينير لهم طرق الحقيقة ومثل الأخلاق والذي في نهجه لم يتقيد بزمان ولا بمكان لإعطاء أفكاره ومناقشة حوارييه ومرتاديه بل كانت قاعته الساحات والشوارع والطرقات، ليكون خير مثال في نقل المعرفة من الدائرة الضيقة الفردية عبر التأمل والذاتية إلى الدائرة الأوسع في مجتمعه الأثيني. وتقارب هذا مع ما عرف لاحقًا بعلم اجتماع المعرفة في نقطة تحويل الفكرة الفردية إلى معرفة اجتماعية، واعتبار أن النتاج الفلسفي نتاجًا «اجتماعيًا» خالصًا، وفيما تضمنه الطرح الماركسي للرؤية الخاصة بعلاقة الأفكار بأدوات الإنتاج، أيضًا فيما رآه المجري -لوكاش- من أن أي مؤلف أدبي أو روائي لا يظهر من العدم بل تفرزه ظروف تاريخية واجتماعية ملموسة. وعند بداية تصنيف الأدب عند الفلاسفة واللغويين فقد صنف -أفلاطون- جنس الشعر إلى أنواع ثلاثة: القصصي، والمحاكاة، ومزيج منهما، وباستقرائها يتضح أن الأول والثاني يقعان ضمن المفهوم الجمعي في القص والمحاكاة، حيث إن هذين النوعين وفي السياق السردي والمحاكاتي لا يقعان في دائرة الفردانية بأية حال من الأحوال، إلا ما كان استثناءً كالخاطرة مثلًا أو المناجاة بين طرفين وفي اتجاه محدد سواء ما كان منها دينيًا أو وجدانيًا أو قد يكون نفسيًا في بعضه، وعاملها المشترك انه يغلب عليها الاتجاه ذا المسار الواحد، أما المخاطب ومن يقع عليه الأثر فهو السواد الأعظم من الناس «المجتمع». أما مزيجهما الثالث فيمثله صوت الشاعر وعطاؤه الإبداعي المروي على ألسنة أفراد المجتمع كما في الشعر الملحمي أي ما يشكل بداية اطلاع مكثف على المضمون بصيغة فردية سرعان ما تشكل اتفاقًا جماعيًا على المحتوى من مبادئ وتأرخة لحروب ومسارات معتقديه، ويعزز هذا افتتان المجتمع الأثيني بذلك حتى الإنسان العادي في حينه كان يحفظ بعض الأشعار الملحمية عن ظهر قلب وفي الغالب تكون مقياسًا لمدى المواطنة والمشاركة في صنع الأمجاد. أما -أرسطو- سيد العلوم وصاحب اكبر تأثير في العلوم الغربية والشرقية فقد فرق في تقسيماته الثلاث للشعر (الملحمي، والتراجيدي، والكوميدي) بشكل يتجلى فيه البعد الاجتماعي من خلال منظوره الضبطي من جهة، وتحفيز سبل الفضيلة من جهة أخرى، فقد جعل من الملحمي خطابًا موجهًا إلى الناس «العامة» مرغبًا وداعيًا إلى أفضل ما لديهم من سمو روحي وإقدام هدف منه غرس النبل والأخلاق الحميدة بمقياس ذلك الزمن والحث عليها، فيما التراجيدية «المأساة» تقتصر في بعضها على مخاطبة الأراذل من أفراد المجتمع، لغاية سامية تتمثل في تطهير النفس عن طريق إثارة الشعور بالإشفاق، والخوف، وتأنيب الضمير، للحد من الخطيئة والانتهاك الأخلاقي عبر الرقابة الذاتية وغسل أدران النفس، فيما أتى الكوميدي خطابًا اتخذ الترميز والإشارة والإيماء لغرض التهذيب بواسطة نهج النقد والسخرية والتهكم والإضحاك. ويستظهر مما تقدم تقارب واضح بين الشكل الأدبي وعلاقته بالمجتمع كجزء من التأثر والتأثير العام الذي أوجد من أجله. وفي العصر الجاهلي شكل الشعر ديوانًا للعرب فكان المرآة الناطقة للحالة المجتمعية وعلى كافة الأصعدة، أفراحها وأتراحها، سلمها وحربها، نصرها وانكسارها، وتبيان أمجاد الفرد والجماعة، ومحددات المكانة والهجاء والمديح كانت من الأدبيات الفاعلة، فكم من بيت أو قصيدة مروية خلفت أثرًا اجتماعيًا كبيرًا، فهذا عمرو بن كلثوم يدخل التاريخ بقصيدته -المعلقة- لاحقًا والتي مطلعها: إلا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا والتي تضمنت أبيات من أروع ما قيل في الفخر، ليتم تداولها على نطاق واسع مثيرة في أوساط القبيلة الفخر والتماسك لأنها ارتبطت بحرب البسوس بين (بكر وتغلب) مشيدة بمواقف بطولية حفزت مزيدًا من الحماس والشجاعة والإقدام بمفهوم ذلك الزمن، أيضًا ما آلت إليه نهايتها من نصر تكلل بمقتل عمرو بن هند. وكان من حجم اثر هذه القصيدة على مجتمع الشاعر أنها أشغلتهم افتتانًا بها وترديدها حتى قال فيهم أحد الشعراء: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم مراجع: - تليمة، عبدالمنعم» مقدمة في نظرية الأدب» (1979) دار العودة، بيروت ط2،ص:137 - الضبع، عبدالرءوف (2002) التغير الاجتماعي، المكتبة المصرية، ص:37 - فراج، أحمد (2003)، «الثقافة والعولمة» الهيئة العامة للكتاب، ص: 96