منذ عدة سنوات ونحن نتحدث عن توسعة المطاف، وتردد عن إزالة الرواق العثماني من أجل توسعة الصحن، ومؤخرًا جاء الحديث عن تفكيك أجزاء منه وإعادة تركيبها، أي أن التوسعة فيما يبدو سوف تكون أفقية وتعتمد منهجية الاستيعابية -استيعاب أعداد أكبر- التي طُبقت في منشأة الجمرات، التي يشوبها عدد من المحاذير. في حين أن منهجية الانسيابية -انسياب حركة الحشود- هي الأولى والأسلم، لأن الانسيابية منهجية ترتكز إلى مفاهيم إدارة الحركة، وتُتيح فرصة للتحكم في تدفق الحشود، وبالتالي تمنع تعرضهم لحوادث التدافع والدهس لا سمح الله. وأما الاستيعابية فهي تُكدِّس أعدادا كبيرة من الحشود البشرية في مكان إلى درجة يصعب معها التحكم في حركتها، وتوجيهها، وعلى الأخص عند حدوث أي طارئ، وهو ما شهدناه في حوادث التدافع أسفل وأعلى جسر الجمرات قبل التطوير الأخير. ولذلك فإن أي مشروع لتوسعة المطاف يستند إلى منهجية الاستيعابية من خلال توسعة الصحن سوف يُضعف القدرة على إدارة الحركة، ويُصعّب التعامل مع حالات الإسعاف والطوارئ، ويُعظّم فرص وقوع الحوادث. لأن توسعة الصحن تعني -على الأقل- مضاعفة العدد الذي يستوعبه الصحن حاليًا، وهو عدد كبير جدًا في أوقات الذروة، وبالتالي سوف تتضاعف مشكلة إدارة حركة الطائفين دخولًا وخروجًا من الطواف، وكذلك في مسعى الدور الأرضي، وفي السلالم والمسارات المؤدية لأدوار المسعى الأخرى. والصحيح هو اعتماد منهجية الانسيابية، والتوجه نحو التوسعة الرأسية للمطاف، من خلال نظرة متكاملة تشمل ليس فقط ربط أدوار المطاف بأدوار المسعى، وإنما الربط مع حركة المرور ووسائط النقل العام، ومراعاة حركة الحجاج والمعتمرين قدومًا إلى المسجد الحرام وانصرافًا منه، ومراعاة توزيع كثافة القدوم والانصراف وفقًا للطاقة الاستيعابية لكل دور من أدوار المطاف والمسعى بحيث يمكن القادمين من الجهة الشرقية -أجياد السد- مثلًا أن يؤدوا نسك الطواف والسعي في أحد الأدوار، وينصرفون من نفس الجهة دون الحاجة إلى النزول إلى صحن المطاف، والقادمين من الجهة الشمالية -الشامية- يؤدوا نسكهم في دور آخر، وهكذا. فتتحقق انسيابية حركتهم من جهات قدومهم وحتى انصرافهم وعودتهم إليها. إن إدارة الحركة في المسجد الحرام لا تزال تتقدم على استحياء وببطء شديد، وفي تصوري أن الأمر لا يحتمل، فأعداد الزوار تزداد بشكل مطرد. وبرغم تزايد أعداد المشاركين في إدارة الحركة أثناء المواسم فإن البنية التحتية لإدارة الحركة غير مواتية، وأحيانًا قد تسبب الإحباط للعاملين في إدارة الحركة. فعلى سبيل المثال منذ أكثر من عشر سنوات تم إضافة لوحات إرشادية في ممرات المسجد الحرام وتحديد ألوان لممرات الأبواب الرئيسية، ولم يطرأ أي تطوير يُذكر لهذا الوضع منذ ذلك التاريخ، في حين أن الواجب أن يتم التوسع في أدوات إدارة الحركة، من خلال زيادة عدد اللوحات الإرشادية لبوابات ومعالم وآيات المسجد الحرام، ومسارات الحركة فيه، وتلوين الممرات وتحديد أماكن الصلاة، وتثبيت بعض الحواجز -كحواجز مسار العربات في المسعى- التي تحدد المسارات الدائرية والإشعاعية داخل المسجد الحرام، التي يُمنع الصلاة فيها إلاّ وقت الصلاة المفروضة، وتوعية الحجاج والمعتمرين والمصلين بمدلولات اللوحات والألوان والأماكن المخصصة للصلاة والطواف والسعي من بلدانهم وفي مساكنهم بالتنسيق مع مؤسسات الطوافة وشركات العمرة. أما ترك الأمور بهذا الشكل وعدم تعليم وتوعية رواد المسجد والركون إلى ذريعة أنهم غير متعلمين وغير ذلك فليس من الإحسان في شيء. إن الجهة المنفذة لمنشأة الجمرات عندما استندت إلى منهجية الاستيعابية عمدت إلى تعريض الجسر إلى مسافة كبيرة غير مفيدة وظيفيًا، بل تؤدي إلى إعاقة الحركة بدلًا من انسيابها. فعرض ثمانين مترًا للجسر -بمعدل أربعين مترًا على كل من جانبي شواخص الجمرات- يؤدي إلى أن أكثر من 80% ممن على الجسر أثناء امتلائه وقت الذروة غير قادرين على الرجم إلاّ باقترابهم من الشواخص لمسافة لا تزيد على 6 إلى 8 أمتار، وهي أبعد مسافة يمكن للإنسان القوي أن يرجم منها، وهو ما يخلق حركة غير منظمة على جانبي الشواخص، ويعيق انسياب الحركة على الجسر. ناهيك عن مخاطر تدفق أعداد كبيرة جدًا في وقت واحد من الجسر بأدواره المتعددة إلى المسجد الحرام وعلى الأخص يوم الثاني عشر من ذي الحجة من كل عام. وأما إدارة الحركة في ظل تبني منهجية الاستيعابية فهي ذات كلفة عالية جدًا مقارنة بالمشروع البديل الذي يستند إلى منهجية الانسيابية، إذ أصبح الجسر يحتاج إلى آلاف الأفراد لتنظيم الحركة ومنع الافتراش. لقد سبق لي اقتراح توسعة المطاف رأسيًا وبطريقة تحفظ للكعبة مهابتها ورونقها بحيث تكون الأدوار المتكررة بدءًا من القطر الخارجي للصحن الحالي، ومرتبطة بأدوار المسعى، وأما صحن المطاف الحالي فيحتاج إلى زحزحة المكبرية نحو الغرب وتحسين مداخله، وإدارة حركة الدخول إليه والخروج منه من الجهات الأربع، ووضع حواجز ثابتة للممرات الإشعاعية في الجهتين الغربيةوالشرقية تبدأ بعد نهاية أقصى قطر للمطاف. هذا والله أعلم.