لا يحتفظ الدكتور صالح سعد اللحيدان، المستشار القضائي الخاص والمستشار العلمي للصحة النفسية لدول الخليج والشرق الأوسط، بأي صورة إيجابية لساحتنا الثقافية، مستندًا في نظرته «القاتمة» هذه إلى افتقار الساحة ل »الموهبة الحقيقية»، حسب رأيه، فهذا الافتقار يراه السبب المباشر في عدم وجود كتابات لها تأثيرها المثمر في المتلقي.. فقر جعل من الكتاب والمبدعين مجرد إنشائيين وسطحيين يعمدون إلى المباشرة في أعمالهم، فقر انتهى بالأعمال المطروحة إلى أن تفقد أي أثر للتغيير في المتلقي وتفتقر لنتيجة إيجابية تنيره وتثيره.. فالروايات المطروحة عنده غالبها مذكرات ومعالجات لحالات تفتقر الترابط الموضوعي، والأعمال النقدية عالية الطرح.. لكنها في التشخيص والتحليل النصي فقيرة الموهبة، والنقد المطروح في الصحف والمجلات لم يعالج ذات الثقافة ولم يعالج ذات الأدب، والإعلام ليس إلا أدوات تسعى للإثارة والربح المادي مما أوقع العلماء والدعاة في العجلة والتهويل وتغليب العاطفة على التأصيل المعرفي.. كل هذه العلل وغيرها مما أتى على ذكره الدكتور اللحيدان يرى الخلاص منها كامن في اكتشاف الموهبة، والمحافظة عليها، وتنميتها.. أما إذا أردنا التجديد فلا سبيل إليه برأيه إلا إذا تخلصنا من مشكلة الآراء الذاتية والانصياع لها بتحرير العقل منها.. جملة هذه الآراء الساخنة حول ساحتنا الثقافية والأدبية في سياق هذا الحوار مع الدكتور صالح اللحيدان.. سطحية المثقفين * ولجت الساحة الثقافية من نافذة الشعر والرواية.. فكيف تقرأ مشهدنا الثقافي من واقع تجربتك التي تبدو مختلفة؟ علاقتي بالثقافة هي علاقة العاشق بمعشوقته؛ فأنا ممن تربطني علاقة بمن هم ذوي قربى للمعشوقة الثقافة وهم المثقفون؛ سواء من داخل الوطن أو خارجه، وأيضًا علاقتي بها من زاوية كوني من المتخصصين في القضاء وبما يتعلق بمسائل الطرح النظري وبما جرى من مراسلات وتنظيرات بيني وبين من هم للمعشوقة أحباب وذوي قربى، لهذا بكل مصداقية أجد أن ساحتنا الثقافية اليوم إنشائية الطرح والتلقي فخلقت متلقي هو تركيبه انشائي، لهذا تقبل ما يطرح عليه مما زاد من المثقفين والكُتّاب الإنشائيين الذين لا يأصلون ما يطرحون بل هم سطحيون ومباشرو التناول لهذا ليس هناك أثر يذكر فيشكر لمن يكتب أو يصدر، لأن النقد الذي ظهر في الصحف والمجلات وكذلك الكتب والإصدارات لم تعالج ذات الثقافة ولم تعالج ذات الأدب؛ وإنما عاشت فقط تبيين الخطأ والصواب والعرض فقط، ولم تأصل تلك الكتابات أو الدراسات حقيقة الخطأ والصواب، ويرجع ذلك لأسباب ثلاثة هي: العجلة والتي جاءت من أجل الوصول لنتيجة، والسبب الثاني العاطفة، والسبب الثالث القليل من يسعى لظهور. إعلام الإثارة والربح * برأيك هل أسهم الإعلام فيما تشير إليه من علل في ساحتنا الثقافية؟ الإعلام وسيلة نشر العلم؛ كما كان الشعر قديمًا رسالة إعلام لنشر الأفكار والآراء؛ ولكن إعلام اليوم يسعى لإبراز الآراء، ومحاولة الإثارة بين رأي ورأي وعالم وعالم بصرف النظر عن الحقيقة أين تكون وكيف وجهتها أو وجهها أو السبيل إليها، إنما تسعى لكسب أكثر حيز من المشاهدة، وأيضًا من الربح المادي؛ لهذا تسعى كل وسيلة لكسب أكثر عدد من الدعاة والعلماء في سباق على الاستحواذ على أكبر قدر من مساحة المشاهدة، وهذا يؤدي لاتجاه معاكس بما يتعلق بالعلماء والدعاة الذين تسارع إليهم تلك الوسائل فيقعون في العجلة في الطرح وتهويل الصورة وتغليب العاطفة في فهم النص على فهم العقل، وأيضًا الخلط بين القاعدة والنص وأقوال العلماء والآراء المثبوتة، إن الإعلام عليه دور كبير وهو يستطيع أن يكون ذا منطلق مصداقي بحيث يكون وسيلة للإضافات غير المكررة وغير الإنشائية؛ بل يكون سبب التجديد. مشكلة الآراء الذاتية * على ذكر التجديد.. هل ساحتنا الثقافية تعيش هذه المرحلة من منظورك العلمي وبحكم علاقتك بالتشخيص النفسي؟ عندما نسلط الضوء من الناحية النقدية والعلمية والنفسية على الساحة الثقافية نجد أنها تفتقر للموهبة كل الافتقار، والتجديد لا يأتي إلا من الموهبة الحقيقية؛ لهذا نحن نفتقر لجانب الموهبة، كما نفتقر لسعة الباع والاطلاع على الثقافات الأخرى، لأن الحضارات تؤثر في بعضها ببعض، ولدينا مشكلة الآراء الذاتية والانصياع لها، لهذا لزم علينا أن نلزم تحرير العقل من الذاتية، وعلينا أن نصنع الموهبة ليكون النقد الموهوب، ومن بعدها سنحصل على ثقافة حقيقية وعلى شمولية أكبر واسعة ناصعة. فنحن يجب أن نعيش التجديد، أن نواكب كل جديد، فنحن مقبلون على مرحلة يجب أن نعيها، وألا نترك غيرنا أن يسبقنا إليها. أعمال بلا تأثير * كأنك تنسف كل انتاجاتنا وإصداراتنا وحراكنا الثقافي في غياب الموهبة؟ نعم؛ الموهبة نائمة عندنا رغم أنها سجية أودعها الله جلّ وعزّ في المخلوق وهي بنوعين معنوية؛ وهي الفهم السابق على حالات النص وما نتج منه وعنه، والموهبة العضوية أو البدنية وهي شدة الإبصار وقوة القلب أو قوة الشخصية المتمثلة بهيبتها الموهبة الدينية وهي سرعة البديهة والاستعداد للفرصة وطرح رأي جديد لم يكن حادثًا من قبل على وجه مطلق، وللأسف لم تخرج الموهبة عندنا نفسها بنفسها لأنها تتضاءل أمام هضم حقها نحو نفسها ونحو المتلقي سواء بسواء، لهذا تفتقر أعمالنا لأثر التغيير المباشر في المتلقي وتفتقر لنتيجة إيجابية تنيره وتثيره وتحفز أيضًا موهبته وحياته. إيقاظ بالمحفزات * كيف السبيل لإيقاظ هذه الموهبة التي وصفتها بالنائمة؟ نوقظها بالمحفزات ومن البحث عنها واكتشافها إعلاميًا وإبرازها، وغالبا ما يميل الموهوب إلى الحساسية المفرطة في طرح ما يخالف المألوف وقد يفهمون خطأ، والموهبة هي موهبة الناقد وموهبة المتلقي، وبينها موهبة أخرى موهبة المكتشف وهي المهمة المترتب عليها ظهور ما قبل ولا يمكن للموهبة أن تظهر إلا عن طريق المتلقي، والمتلقي لا يبرز رأيه إلا عن طريق المكتشف، وفي فعل هذا فإن الموهبة تبرز نفسها بالقوة لأنها موهبة ربانية غير محسوسة إلا بعد أن تظهر، كقدرة الخطيب البغدادي في كتابة تاريخ بغداد، وابن القيم في كتابه «الطرق الحكيمة»، وغيرهم. لا نقاد ولا روائيين * أمازلت عند رأيك الذي جهرت به في محاضرة أدبي الطائف بأنه ليس لدينا نقاد وروائيون حقيقيون؟ لدينا أعمال روائية جيدة؛ ولكن غالبها مذكرات ومعالجات لحالات تفتقر الترابط الموضوعي للوصول لنتيجة مؤثرة تقلب كينونة الشخص المتلقي بحيث يبقى أثرها دائمًا، وهناك في بعضها ضيق نفس، ونوع من القطع وعدم التماسك لأن الكاتب الروائي يكتب لما يقرأ فقط ولمن تقرأ له، لا يكتب لحقيقة المراد وطرحه، ودائمًا العبرة حسب الدراسات النقدية العبرة في (الكيف لا الكم)، ونحن كيفنا قليل جدًّا، أما النقاد فأرى أن النقد بحد ذاته موهبة لا يصلح معها إشراك الينبوع أو الذكاء أو الإلهام؛ لأن المداخلة من هذه الأشياء تطغى على الموهبة، وغالبًا الموهوب يميل للانزواء الذاتي ما لم يكتشف أو يحافظ عليه أو يدافع عنه، لهذا ليس لدينا نقاد حقيقيون لغياب موهبة الناقد؛ فجل الأعمال التي اطلعت عليها (في بعضها) أعمال عالية الطرح وجيدة؛ إلا انها من خلال التشخيص النقدي والتحليل النصي أجد أنها تكتب للمتلقي لا لذات الحدث ولا لذات النص، وهذا ما جعلها تفتقر للموهبة افتقار الإنسان للماء، فتعددت مثل هذه الأعمال في غياب الناقد الموهوب الذي يفرز العمل الموهوب والعمل المؤثر من العمل الذي لم يظهر إلا لمجرد الظهور، أو بدافع إعلامي، أو اسم يلمعه ويلوي إليه أعناق البصر بينما هو خاوٍ من الفكر. انتحار محتمل * وفقًا لكل هذه الرؤى التي تطرحها.. هل ترى أن المبدعين معرضون للانتحار؟ نعم؛ لأن الموهبة حسب الدراسة النفسية تحتاج لمن يكتنفها ويكتشفها ويحافظ عليها، لأن غالب الموهوبين يشار أمامهم الحسد لا سيما من القريب أو الزميل أو من هو في ذات إطار تلك الموهبة، لهذا الموهوب شديد الحساسية المفرطة، ويجب أن نتعامل معه بلطافة لأنه قد يقع في أشياء لا يقصدها فينتحر دون شعور منه.