(1) أحب البقاع إلى الله.المدينة التي نشأت بين جبالها ووهادها الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ.الفضاء الذي ازدهى بذكريات النبوة الجليلة والخلفاء الراشدين.الأرض التي احتضنت رسول الهدى في هجرته المباركة لها,ليدعو لها بين سائر المدن»أن يحببها إلى نفسه ونفوس أصحابه,كما حبب إليهم مكة أو أشد حبا»و»أن يبارك الله لساكنيها في مدهم وصاعهم».الطيبة التي طابت واستطابت..المدينةالمنورة. (2) ..ولكن-وما أصعب لكن هذه-ان الواقع العمراني والمؤسساتي التنظيمي لهذه(المنورة) لاينسجم أويحتفي أويتماهى مع تلك الدلالات المشرقة والفضائل العظيمة التي جعلت منها حالة خاصة(جدا)بين مدن الأرض..شوارع ممزقة,ومشاريع مجمدة واختناقات بشرية وحديدية ومن كل نوع,وارتهان دائم للحظة ماضوية غابرة توقفت عندها مراحل النمو الطبيعية للمدينة, مخالفة بإصرار عجيب لحركية الزمن الرافضة للنمطية والسكون,إذ هي كما هي العام الماضي,وما قبله, وماسبقه من سنوات ومراحل تاريخية! سأبدأ مقاربة تجليات ذلك الواقع ب(الحرم النبوي الشريف)الذي يمثل(مركز الاستقطاب)للمدينة بحسب ابن خلدون في مقدمته العمرانية الفلسفية. (3) ..بداية فإن فتح باب العمرة على مصراعيه المتسعين بتلك الأعداد الهائلة من الزائرين يعد ضربا من التخطيط اللامنهجي ,فالتجارب أثبتت في مواسم الذروة(رمضان ثم الحج)أن الحرم النبوي على امتداد ساحاته الداخلية والخارجية,وبالرغم من (التوسيعات) المباركة التي اضطلع بها ولاة أمر البلاد,لايمكن أن يستوعب ذلك الطوفان البشري الهائل!وإلا فما معنى أن تمتد صفوف المصلين لمسافة كيلوين تقريبا عن آخر حدود التوسعة في اتجاه شارع الستين المضطرب شمالا أو في اتجاه النواحي الشرقية(حدث هذا تماما في صلاة العيد لهذا العام). ومن جهة أخرى فإن السماح لتلك الأعداد الهائلة على امتداد العام تقريبا يمثل عبئا إضافيا على حساب نظافة ونظام وسلامة هذه البقعة المباركة التي كانت مضربا للأمثال في النظافة والإطمئنان وانغمار المكان بعبق العبادة وذكريات الجلال.. (4) الحرم النبوي-بممارسات مرفوضة-يتحول إلى مكان لايرتبط بعلائق مقدسة مع جلال المكان وهيبته.تشاهد هذا وأنت ترى المصلين من كافة الأجناس اعتادوا على التسابق-بعد انقضاء الصلاة مباشرة-على حاملات المصاحف الخشبية لاستخدامها (مخدات)مناسبة لنوم هادئ,لايعكره معكر على امتداد ساعات طويلة,كذلك فإن المشهد الأكثر إيلاما واستفزازا هو تلك المطاعم المفعمة(بالدسم)التي تشرع سفرها مرتين(تامتين)خلال الشهر الفضيل,والتي يتركها مرتادوها على حالها المقزز بعد انقضاء اللحم وبقاء العظم,ليضرب ذلك المشهد كثيرا في جسد نظافة الحرم المغلوبة على أمرها وآمريها..ليتحول الحرم الذي يحتضن قبر الرسول المصطفى إلى فضاء سياحي يقوم فيه الزائر بكافة ممارساته الحياتية من نوم وأكل وشرب واغتسال,بل وطبخ في بعض الأحيان(فقد شاهدت بنفسي الأمارة قدور الطبخ التي ترتمي بثقة على نار باكستانية هادئة في احدى الساحات الخارجية),والمدهش حقا إن بعضهم-في إقامتهم ذات الخمسة نجوم- كانوا يدخلون أسلكتهم الكهربائية بطريقة ما إلى فتحات التكييف المحيطة بأعمدة الحرم لشحن هواتفهم النقالة التي يرفعون بها الصوت عاليا,حتى على الأطهار المكرمين المستقرين بالجوار!!ممارسات تتعدى-بجهل الفاعلين وصمت المسؤولين-على قداسة وجلال وهيبة المكان المشرف! (5) ولا أجد تفسيرا-بعد ذلك-لقلة عدد العاملين المراقبين,وضعف أدواتهم الثقافية التي تجعل طريقة تواصلهم مع الآخرين فجة غليظة غير مؤثرة.ثم من يفسر لنا الغطاء الكامل على وجوه المشرفات على الجزء النسائي,وهن بين نساء ( حقيقيات)..ألا يعكس هذا المشهد ثقافة سيئة لنا أمام الآخرين من كافة الثقافات.؟ (6) المكان المكرم بأجر ألف صلاة المفعم بذكريات النبوة العطرة يخلو من(رائحة)ما..تلج بألق في أغوار الأرواح المطمئنة,سوى بعض الروائح غير المحببة غالبا,والتي تنضح من أجساد بعض المصلين..لطالما كنت أدهش من غياب تلك(الرائحة)التي تضفي على المكان عبقا وإجلالا آخرين, كما ان الحضورالفاخر للرائحة المشتهاة يغيب ما سواه من (روائح) اجساد وملابس ..ألم يكن(الطيب)مستحبا لدى المسلمين في جمعهم واعيادهم وصلواتهم؟وقد ورد في الأثر أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-كان(يطيب)مسجد رسوله الكريم كل جمعة قبل الصلاة,كما كان عبدالله بن الزبير(يبخر)الكعبة المشرفة كل يوم ويضاعف تطييبها يوم الجمعة المباركة.حضور الرائحة بصيغة جمالية ما يكسب المكان ألقا و(خصوصية)تجعلانه في ذاكرة الزائرين والمصلين كلما مر طيفها الندي في حواسهم الإيمانية,كما إن الحضور الفاخر للرائحة المشتهاة يغيب ماسواه من أجساد وملابس كثير من المصلين(الوافدين..غالبا)الذين لم يعرفوا إلى اللحظة أن»الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».وفي الحقيقة لست أعرف-بالضبط-صيغة الرائحة التي ينبغي توفرها في ذلك المكان المبارك,ولكني ربما أقارب ملامحها من خلال رائحتي المسك والعنبر اللتين كان يحبهما الرسول الأكرم,ثم من خلال رائحة العود الخالص الذي ارتبط في ذاكرتنا بالاحتفال والبهجة والجلال,ويمكن ان يضاف إلى ذلك الخليط المقترح ملطفات الجو المشتملة على عناصر صحية معقمة.. (7) ..وبعد..ألم يحن الأوان لتغيير فرش الحرم التي تقادم عهدها كثيرا,وبدا يظهر على مظهرها ورائحتها القدم..إن تغييرها بلون آخر أكثر هدوءا وروحانية أصبح أمرا ملحا وممكنا بالنظر إلى حجم الجهود الخارقة التي حظي بها كلا الحرمين الشريفين من حكومة هذه البلاد المباركة عبر التاريخ! (8) وأخيرا,فماذا عن بعض أئمة الحرم النبوي الشريف؟ألم يكن بالإمكان اختيارهم على غرار الحرم المكي الذي يمتلئ بالأصوات العذبة الجليلة؟ .أقول هذا وأنا اعرف أن المدينةالمنورة تعج بعلماء أجلاء تزدهي أصواتهم بمفردات القرآن الكريم,وبكافة الألسن والقراءات..!