الموت هو اللغة الوحيدة التي تخاطِب كل الناس، ويفهمها كل الناس، بصرف عن النظر عن جنسياتهم، وأعمارهم، وفئاتهم الاجتماعية، ودخولهم الاقتصادية. والموت يسوق نفسه بنفسه على الجميع، بدون إعلان أو إعلام، وعلى من شاء أن يشتري شيئًا منه، ألا يحمل حتى قرشًا واحدًا، فهو يفرض نفسه بحكم الواقع، وهو واقع أساسي لا يجوز القفز عليه، بل لا بد من الاستفادة منه، وتوظيفه بوعي، ومراجعة تاريخ من اختطفهم الموت من حين لآخر. حتى شهور مضت كان على الساحة الإعلامية، يدور في فلك واضح، أنجز منه خطوات على طريق الوعي بإشكالية الحياة، والأصالة، والمعاصرة، وانتقل بها إلى مستوى آخر، خارج النقاش العقيم الذي ظل يدور حوله آخرون. مات «محمد صلاح الدين الدندرواي» رحمه الله، بدأ حياته منطلقًا من مرجعية ثقافية دينية متفتحة، واتجه إلى المستقبل نابذًا كل توجه سواها، رأى أن المعرفة الصحيحة بالواقع، من الشروط الضرورية على صعيد الوعي، بوصفه مجالاً يتبوؤه أي مشروع مستقبلي. كنت أحد تلاميذه، يوم أن كان هو على رأس هرم صحيفة المدينة، وكنت مكلفًا بتحرير صفحة «فنون» تحت اسم مستعار هو «مايك». علمني: الهدوء، والرصانة، والترفع بخطاب عقلي، بعيدًا عن الغطرسة والجهل، وما كنت آنذاك -وحتى اليوم- في حاجة إلى أكثر من ذلك. ودارت الأيام، والكل في فلك يسبحون، وكلانا يسبحان في فلك إعلام يحمل كل التناقضات: الخير والشر، الصالح والطالح، والتجارب، والتبسيط، والانتقائية، والتشبت، والصراع، والغلو، وجمعني العمل به في «شركة مروة للعلاقات العامة والدعاية والإعلان» عندما اختارني مديرًا عامًّا لها، وهنا بدأ الحوار، والموقف العقلاني منه، وأوله حوار مع النفس بالمراجعة والنقد الذاتي، وآخره حوار مع غيرك، للتدقيق في الأمور، والإحاطة بتلابيب الموضوع، والنظر إليه من زوايا مختلفة، بغية الحصول على أكبر قسط من الحقيقة، وأكبر قدر من الصواب. اليوم رحل «محمد صلاح الدين الدندراوي» لقي وجه الله، بأفكار بسيطة نتائجها عظيمة، رحل مذعنًا لحقيقة وحيدة لا تخطئ أبدًا (الموت)، والموت لا يطلب المزيد من العلم، أمّا المستهدف به، فلا بد أن يعلم أنه راحل لا محالة، ولا يبقى إلاّ ما قدّم من عمل، في إطار علاقات تعاضدية مجتمعية، تفرض نفسها على كل الأحياء. رحم الله أبا عمرو، وعزاء لعمرو، ولأم عمرو، وللابنة سارة، ولكل من تعاملوا مع «محمد صلاح الدين الدندراوي» وعملوا معه، وتعلموا منه، ولم يتلكأ هو في إسداء النصح والتوجيه والإرشاد إليهم. خطف الموت إعلاميًّا عملاقًا، و»الفلك يدور»!! فمن عليه الدور؟. [email protected] فاكس: 014543856