لعلي كنت دقيقًا حين قلت في مقالي السابق إن النية الطيبة لوحدها لا تصنع بحثا علميا قويا، بل إن انعكاسات ذلك على المدى القريب والبعيد وخيمة، إذ ما أصعب أن يكتشف المرء بعد حين خطأ ما كان يعتقد أنه صواب مطلق، وهو للأسف ما اختار منتجو المسلسل أن يسيروا عليه في معالجتهم الدرامية والتاريخية، لكونهم قد سعوا ومنذ اللحظة الأولى، إلى تسويق فكرة أن الفتنة التي دارت أحداثها في عهد صدر الإسلام، كانت بسبب عبدالله بن سبأ اليهودي، وبمنأى عن الخوض في مناقشة حقيقة ذلك ومدى القبول بوجوده التاريخي ودوره السياسي، إلا أنني لم أعرف بصورة دقيقة من خلال المسلسل كيف سعى ابن سبأ في إثارة تلك الفتنة؟ بمعنى، ما هي الأفعال المشينة التي ارتكبها ويمكن إثباتها عليه دون مواربة أو تشكيك؟ حيث لم يتضح لي سوى تلك الحوارات الشيطانية الغامضة التي كانت تدور بينه وبين قريبه اليهودي الآخر، التي على سوئها ومبلغ حَنقها على الإسلام والمسلمين، إلا أنها ستظل غير ذي بال في مسلسل يُفترض أن مجيزيه ومنتجيه قد اعتمدوا على النص والوثيقة البَيِّنة، كما كيف استطاع ابن سبأ وهو النكرة الجَهول أن يفتن كبار الصحابة رضوان الله عليهم؟ وأن يُدير فتنة مقتل الخليفة عثمان بكل أريحية وسهولة؟ وهل كان له دور بعد ذلك في إجبارهم على مخالفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والافتئات على سُلطاته؟ حين أرادوا تجييش الناس دون إذنه، للقصاص من قتلة الخليفة عثمان رضي الله عنه، والأعجب حين يتم تمرير ذلك على أنه من باب الإصلاح بين الناس بحسب ما أراد المسلسل أن يُرَوِّج له! وهل كان له دور في حض معاوية بن أبي سفيان أمير الشام على الخروج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورفضه مبايعته بحجة الاقتصاص أولا من قتلة الخليفة عثمان؟ وفي المقابل كيف يكون مقبولا الامتثال الكُليَّ غير المبرر ولا المفهوم لأوامر الخليفة عثمان بن عفان في عدم مواجهة من يُريد الفتنة، ويريد قتله، ويقوم بحصاره وتجويعه ومنع الماء عنه، وصولا إلى لحظة الهجوم عليه، حين خرج مروان بن الحكم بحسب سياق المسلسل، ليحض الحسنيين ومن معهما على عدم الدفاع عن الخليفة، بحجة أن ذلك بأمر منه، وأن له السمع والطاعة على أي حال وفي كل حال، إلى آخر ما صوره المسلسل من مثالية فريدة في هذا الباب! ثم وفي نفس الحلقة ذاتها ينقلب الحال فجأة، فنجد أولئك الداعين إلى الامتثال لأوامر الخليفة كمروان بن الحكم، يُؤلبون الناس على خليفة آخر، له نفس الحق من السمع والطاعة، باسم الثأر لمقتل عثمان؛ أليس ذلك من الخلل الواجب إصلاحه بحكمة ومنهج علمي حتى تستقيم الأمور منطقيا على الأقل؟ على أن الأمر لا يتوقف هنا بل يكتمل العَجَب حين تتحول قضية خليفة الأمة، إلى مسألة عائلية متعلقة ببني أمية، بمباركة من مجيزي المسلسل ومنتجيه، الذين بَرَّروا عبر عديد من المشاهد وعديد من الأقوال على لسان مروان بن الحكم وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، اشتراطهم تسليم قتلة الخليفة عثمان وقتلهم لمبايعة الخليفة الشرعي من بعد عثمان وهو علي بن أبي طالب، فهل يصح ويحق فعلا لأي من كان أن يَفتئتَ على صلاحيات الحاكم ويقتص لنفسه بشكل مباشر؟. وليت أن الخلل قد اقتصر على طبيعة المعالجة الدرامية للأحداث، لكنه قد تعدى ليبلغ حدَّ التشكيك ونفي روايات ثابتة في عديد من المصنفات جملة وتفصيلا، دون الاعتبار لأهمية أن يُراعي الباحث الشفافية في المعلومة، حتى لا يفقد مصداقيته وثقة متابعيه بوجه عام، ولكي لا أكون مرسلا في الاتهام سأورد أمرا محددا، حيث عمل المسلسل على التشكيك ورفض قصة نفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحَكم بن أبي العاص والد مروان إلى الطائف، بالرغم من ثبوت ذلك في العديد من المصادر المعروفة الموثوقة، ومنها ما رواه ابن الأثير في كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة حال ترجمته للحَكم حيث قال: «وهو طريد رسول الله نفاه من المدينة إلى الطائف..»، كما روى ابن حجر في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة ذلك حين ترجم للحَكم فقال: «قال ابن سعد: أسلم يوم الفتح وسكن المدينة ثم نفاه النبي إلى الطائف ثم أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان ومات بها». وأخيرا يبقى التساؤل مطروحا: هل حلَّ مجيزو ومنتجو المسلسل معضلة الأمة بافتئاتهم التاريخي وتجرئهم على تجسيد شبيهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ أم أنهم قد فتحوا بابا ليس له حد يقف الناس عنده؟!. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (51) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain