وأنا أشاهد ما أصاب إخوتنا في الدين والدم والقربى في الشام الأبي في أول يوم من أيام رمضان، وصولاً إلى يوم الناس هذا، من تقتيل وتنكيل وسحل وتشريد وتجويع وهدم للمساجد، بما لم تفعله إسرائيل بالعرب والمسلمين، تذكرت قصيدة لأمير الشعراء «أحمد شوقي» حفظتها أيام الصبا، عنوانها: «نكبة دمشق» ومطلعها: سلامٌ من صَبَا بردى أرقُّ ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ ومعذرةُ اليراعةِ والقوافي جلال الرُّزءِ، عن وَصْفٍ يدقُّ وبالفعل، فإن جلال الرزء، أو عظم المصيبة، يعجز القلم عن وصفه بدقة، ويعيا الشعر بقوافيه عن تصوير هوله وفظاعته، وعلى الرغم من أن الأمير كان يصف ما أصاب دمشق والشام من ظلم المستعمر وكفاح أبنائها معه، وبذلهم لدمائهم رخيصة من أجل التحرر منه، إلا أن كل ما جاء في القصيدة يكاد ينطبق بحرفيته على ما يصيب أهل الشام اليوم من ظلم وتنكيل لم يفعله المستعمر ولم يجرؤ عليه، ولو كان فعله لهان الأمر بالطبع، أما أن يفعله ذوو القربى فهو أشد مضاضة وبلاءً: وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةٌ على المرء من وَقْع الحسام المهنّدِ فها هو شوقي يصف شعور كل عربيّ ومسلم من ألم وحرقة لما أصاب دمشق من جراحات، وكأنها جراحات في قلوبنا جميعاً: وبي مما رَمَتْكِ به الليالي جراحاتٌ لها في القلب عُمقُ وها هو يصور جمالها وتألقها الذي طالما نعمنا به ونعم به كل من زارها: دخلتكِ والأصيل له ائتلاقٌ ووجهكُ ضاحك القَسَماتِ طَلْقُ وتحت جنانِكِ الأنهار تجري وملء رُباكِ أوراقٌ وَوُرْقُ وهو ما يزيد من ألمنا وحسرتنا عليها حين غابت البسمة عن وجهها. ورغم ضعف وسائل الاتصال في عهد شوقي التي كانت تقتصر على البرق والبريد، إلا أن مأساة دمشق حينها ومعاناتها كانت تصل إلى الآفاق كما ذكر الأمير بنفسه، حين وصف امتعاضه مما يسمع من أنباء: لحاها الله أنباءً توالَتْ على سَمْعِ الوليِّ بما يشُقُّ يُفصّلها إلى الدنيا بريدٌ ويُجملها إلى الآفاقِ بَرْقُ وفي عهد شوقي، كانت أخبار نكبة دمشق تصل إلى الآفاق مجملة ومفصَّلة، أما في عهد الاتصالات الفضائية، فتُمنع كل المحطات والإذاعات والصحف من نقل أي خبر عنها، ولا يصل إلى الناس إلا الأخبار المتناثرة وما ينقله الهواة، وما يبثه شهود العيان على شبكة الإنترنت. وقد وصف شوقي ما حصل في دمشق في عهده بأنه أقرب إلى الخيال والخرافة، ولا أعلم إن كان عاش أحداث اليوم فكيف يمكن له أن يصفها: تكاد لروعة الأحداث فيها تخال من الخرافةِ، وهي صِدْقُ فإن خال الأحداث في عهده خيالاً أو خرافة، فإن أحداث اليوم أغرب بكثير من كل خيالٍ وكل خرافة، ولم يحدث مثلها في عهد هولاكو ولا جنكيز خان. وكأني بشوقي يعيش بيننا اليوم ويسمع ترّهات النظام السوري الذي يدّعي بأن هناك عصابات مسلحة وراء كل ما يحدث في سوريا، وهو ما سبق للمستعمر أن قاله ذريعة لجرائمه التي لا تغتفر. يقول شوقي: إذا ما جاءه طُلّاب حقٍّ يقول: عصابةٌ خرجوا وشقوا وها هو النظام السوري اليوم يصف الشعب بأنه عصابة من المنشقين، ومرة يقول إنهم من السلفيين ومرة يتهم جهات خارجية في تخبط ماثل للعيان. وليس هناك أصدق من وصف شوقي لنضال الشعب السوري سواءً في زمن الاستعمار أو في هذا الزمن الذي هو أعتى وأنكى بلاءً: بلادٌ مات فتيتُها لتحيا وزالوا دون قومِهمُ، ليبقُوا وحُرِرَتْ الشعوب على قناها فكيف على قناها تُسترقُّ؟ نعم، بموت فتيان سوريا اليوم وفتياتها وأطفالها وشيوخها لتحيا الأمة وتبقى، بينما يزول الظالمون ويلحقون بمن سبقهم من العتاة والمجرمين. ولعلنا نحث الشعب السوري على الصبر ونذكره بقوله تبارك وتعالى: (إن الله مع الصابرين)، تماماً كما حثه شوقي على الصبر والصمود في وقفته بين الموت والحياة: وقفتم بين موت أو حياةٍ فإن رمتم نعيم الدهر فاشقُوا وللأوطان في دمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سلَفَتْ، ودَيْنٌ مستحقُّ كما يصف شوقي موت الشهداء بأنه حياة للأجيال، وفي سجن الأسرى انعتاق وحرية لهم، كما يصف باب الحرية بأنه مضرّج بالدماء: ففي القتلى لأجيال حياةٌ وفي الأسرى فدىً لهمُ وعِتْقُ وللحرية الحمراءِ، بابٌ بكل يدٍ مضرّجةٍ يُدَقُّ وها هو يحيي أهل الشام ويصفهم بأنهم عزّ الشرق، ونشاركه هذه التحية: جزاكم ذو الجلال بني دمشقٍ وعزُّ الشرق أوله دمشقُ تلك مقارنة بين ظلم لحق بالشام أيام الاستعمار وآخر لحق بها اليوم ولكنه أشد مضاضة لأنه من ذوي القربى، وعلى العموم فالمستعمرون كانوا أهل كتاب، تُؤكل ذبيحتهم وتُنكح نساؤهم. ونختم بقول الشاعر: إذا ظالمٌ يستحسن الظلم مذهباً ولجَّ عتوًّا في قبيح ارتكابهِ فكِلْهُ إلى ربِّ العبادِ فإنه سيبدي لهُ ما لم يكن في حسابهِ فكم قد رأينا ظالماً متبختراً يرى النجم تيهاً تحت ظلِّ ركابهِ فلمّا تمادى، واستطال بظلمهِ أناخت صروف الحادثات ببابهِ وعُوقِب بالظلمِ الذي كان يَقتفي وصّبَّ عليه الله سوط عذابهِ [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (53) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain