منذ أعلنوا يوم الجمعة 29 يوليو موعدًا لتظاهرة فوق مليونية بميدان التحرير تحت شعار «جمعة وحدة الإرادة الشعبية»، توقع كثيرون أن تنتهي إلى عكس المقصود منها، إلى إثبات تعدد وتفتت الإرادة الشعبية، والبعض توقع أن تنتهي بمأساة، الحمد لله إنها لم تسفر عن الأسوأ، فقط أكدت الحقيقة بالغة البساطة والبداهة المعروفة سلفًا في عالم السياسة: أن لا وجود لخرافة الإرادة الموحدة، التي تستعملها ديكتاتوريات البطش والإرهاب للتنكيل بمن تعتبرهم خونة وأعداء للشعب. قصة تلك الجمعة تشرح ظروف هذه المرحلة في السياسة المصرية، اقترحتها من الأصل تيارات الإسلام السياسي (إخوان وغيرهم) لإظهار تلك التيارات كجبهة واحدة تمثل الأغلبية الكاسحة، بغرض إظهار شعبيتهم وقدرتهم على الحشد (هذه الشعبية وتلك القدرة معترف بها بداءة ولا شك فيها)، اقترح بعضهم أن تكون تحت شعار «مليونية الشريعة»، واقترح آخرون أن يكون شعارها «مليونية الهوية الإسلامية»، أي أن الخلاف دب بينهم قبل أن يتوسعوا في ضم سواهم من التيارات (ليبرالية أو علمانية، سمها ما شئت، المسميات لا تعنى شيئًا إلا عند من يريد أن يستعملها لأغراضه) إلى تلك التظاهرة، أما بعد ضمها لإظهار وحدة الإرادة الشعبية فقد أصبحت التناقضات أفدح من أن تخفى. لكي تعرف لماذا قبلوا ضمها يجب أن تعرف ما غرضهم في الأساس من تلك الجمعة، باختصار كانت غايتهم التأثير على توجهات المجلس العسكري فيما يخص إدارة المرحلة الانتقالية، وطرح شعار الإرادة الشعبية الموحدة هو الأنسب في هذا المقام. غني عن القول أن تظاهرة الجمعة الأخيرة لم تنجح إلا في تأكيد المعلوم سلفًا: شعبية تيارات الإسلام السياسي وقدرتها على الحشد، وخرافة ما يسمى الإرادة الواحدة للجماهير، وبل وحتى الإرادة الواحدة لتيارات الإسلام السياسي. حدثتك في المقال السابق عن الضبابية، باعتبارها العقبة العظمى أمام أي تطور مفيد نافع للناس، وهى ليست حالة مؤقتة أو مرحلية، إنما واقع ثابت رسخ على مدى قرون، وكل واقع يطرح مشكلاته، وواحدة من مشكلاته الفراغ النظري أو الأيدلوجي، الذي تعاملوا معه بالشعارات، التي توحي بأن ثمة شيئًا مطروحًا، بينما هي لا تقول شيئًا. التيارات تتعدد كما هي طبيعة السياسة، كل ما عدا تعددها مفتعل وغير طبيعي، لأنها ساحة تنافس لرؤى ومصالح متعارضة، فالتيارات موجودة حتى إن أنكرنا وجودها، حتى إن سكتت أو قمعت، وشعاراتها مسموعة ولو بالهمس، وجميعها تعمل في أجواء ضبابية لا تبشر بأمل، يستوي في ذلك تيارات الإسلام السياسي بمختلف رؤاها، وتيارات خصومهم بمختلف رؤاهم. يرفع الفريق الأول لافتات تربو على الحصر، تتراوح من الشريعة إلى الدولة الإسلامية إلى الدولة ذات المرجعية الإسلامية، ويرفع الفريق الآخر لافتات الدولة المدنية أو العدالة الاجتماعية، ولديه هو أيضًا وفرة من الأحزاب والشعارات. لا هؤلاء ولا أولئك على استعداد للنزول إلى التفاصيل، أو قول شيء محدد عن أنفسهم، وإن دبجوا الخطب والمقالات الطويلة للنيل من خصومهم وبيان مثالب الخصوم، لا هؤلاء ولا أولئك تحدث عن توازنات وضمانات النظامين السياسي والقانوني، وإجراءاته وكيفيات تحقيق انضباطه وعدالته، لا أحد فيهم تحدث بصراحة وتفصيل عن المشكلات المعاصرة لمجتمعهم، وما يقترحونه بشأنها من حلول عملية بعيدة عن الكلام العام. أعنى بالتيارات المجموعات ذات الرغبة والطموح في العمل السياسي، وهى من حيث تعداد أفرادها في أي مجتمع لا يشكلون أغلبية، الأغلبية في جميع الأحوال وكل الأزمنة صامتة، ليس بمعنى أنها غير معنية بالشأن العام، فحتى أكثر الناس ذاتية وسلبية يدرك ولو في خلفية وعيه أثر العام على الخاص. صامتة بمعنى أنها مستعدة لتفويض أي تيار عنده الرغبة والطموح لترجحه على منافسيه، لذلك فمنافسات التيارات ليس فيما بينها، هذا خطأ عقيم (لا ينفعها ولا ينفع الناس) تقع فيه غالبًا، فتراهم يلجأون إلى أحط الأساليب للنيل من بعضهم البعض، بما فيها العنف البدني، بينما غايتهم الأولى والأخيرة ليست تصفية الآخر إنما استقطاب أكبر شريحة مؤيدين بين الأغلبية الصامتة، ولا سبيل إلى هذا إلا بالإقناع، المساعي الجادة للإقناع لا الأساليب الهزلية للشعارات هي ما يقشع الضبابية، فإن انقشعت أعلم أن ثمة أمل. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (32) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain