قرأت الحوار الذي أجراه ملحق «الرسالة» في عدده الصادر بتاريخ 7 / 8 / 1432 مع الشيخ محمد الددو، واستوقفني -في معرض كلامه على حديث ((افتراق هذه الأمة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة))- قولُهُ: إنَّ هذا الحديث واردٌ في معرض مدح هذه الأمة، وليس ذمُّها؛ وذلك بالكثرة والزيادة، فنحن أكثر من اليهود والنصارى فِرَقًا، كذا قال -عفا الله عنا وعنه. وأجاب عن لفظة: ((كُلَّهَا في النار)) الواردة في عددٍ من ألفاظ الحديث بأنها لفظةٌ ضعيفةٌ لا تصح، من غير أن يذكر علة ضعفها عنده، ولا مستنده في تضعيفها، وأقول: أولاً: الحديث بهذه اللفظة ثابتٌ لا غبار عليه عند أهل العلم بالحديث وقواعده، رواه عددٌ من الصحابة بأسانيد يشدُّ بعضها بعضًا، منها: = ما أخرجه أحمد في المسند، وابن ماجه في سننه وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)). قال البوصيري في ((الزوائد)) عن إسناد ابن ماجه: إسنادٌ صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ، وصححه الشيخ الألباني في ((صحيح ابن ماجه))، وقال في ((ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة)) لابن أبي عاصم: الحديث صحيحٌ قطعًا؛ لأنَّ له ستَّ طرقٍ أخرى عن أنسٍ، وشواهد عن جمعٍ من الصحابة، وقال في ((السلسلة الصحيحة)): وفيها كلها الزيادة المشار إليها، ثم ساقها رحمه الله كاملة في قرابة تسع صفحات. * ومنها: ما أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم من حديث معاوية رضي الله عنه، ولفظه عند أحمد: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً يَعْنِي الأَهْوَاءَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ((المسائل)): حديث صحيحٌ مشهور، وقال الحافظ ابن حجر في ((تخريج الكشاف)): إسناده حسن. = ومنها: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عند ابن أبي عاصم في ((السنة))، وابن ماجه في ((سننه)) وغيرهما، ولفظه: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ)) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ((الْجَمَاعَةُ)). قال الشيخ الألباني في ((ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة)): إسناده جيدٌ، رجاله كلهم ثقاتٌ معروفون، غير عبَّاد بن يوسف، وهو ثقة إن شاء الله. * ومنها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه الطويل عند الطبراني في ((الكبير))، وفيه: ((اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً، سبعين من النار وواحدة في الجنة، واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقةً، إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، وتختلف هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة )) فقلنا: انعتهم لنا! قال: ((السوادُ الأعظمُ)). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): رجاله ثقاتٌ. قال الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)) بعد أن أورد عددًا من طرق هذه الأحاديث، قال: أسانيدها جيادٌ. ثانيًا: إذا تقرَّر ثبوت هذه اللفظة: ((كُلَّهَا في النار))، فإنَّ الحديث بلا شك واردٌ في سياق ذمِّ الافتراق والتحذير منه، وليس المدح، كما توهمه وأغرب به الددو سامحه الله. كيف! وقد تواترت نصوص الشريعة من الكتاب والسنة في النهي عن الاختلاف والتفرق، والتحذير منه، والوعيد عليه، كما في قوله سبحانه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)، وقوله سبحانه: (إن الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء، إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)، وغير ذلك من النصوص مما يطول المقام باستقصائها. هذا ما أردت بيانه، والله الموفق.