تلقيت على هاتفي النقال رسالة من ثلاث كلمات اكتفى صاحبها بالسؤال التالي: « .. وآخرتها يا أستاذنا؟!.. آخرة ماذا؟.. لا أعرف.. من هو صاحب الرسالة؟! لست متأكداً من هويته.. بعد قليل جاءني صوته على الهاتف يسأل مجدداً:لماذا لم ترد على سؤالي؟ سألته: من أنت؟ لاكتشف أنه كاتب صحفي صديق يبدي اهتماما في مقالاته على مدى أسابيع بتطورات الأوضاع في مصر وتونس ومناطق الثورات العربية.. ثم شرح لي كيف أنه بات في حيرة من أمره يريد أن يعرف «آخرتها» أو نهاية المشهد الحالي في مصر وفي تونس وفي غير عاصمة عربية طالتها موجة الثورة أو حمى التغيير. قلت له إن سؤاله مثير للحيرة، ومحفز لمشاعر القلق، وأنه يعكس حالة نفاد صبر مبكرة، ورحت أطمئنه – رغم قلقي- بأن ليس ثمة ما يدعو للقلق لأسباب كثيرة قلت له أن من بينها ما يلي: أولاً: أنتم رومانسيون تتعجلون القطاف ولا تريدون التسليم بأن ما حدث ويحدث هو تجربة جديدة وفريدة في التاريخ العربي كله،لا يحكم حركتها بالطبع قانون واحد جامد، وليست لها بالضرورة نهاية درامية واحدة أو متطابقة. ثانياُ: أن آخر عهد التاريخ الإنساني بالثورات الشعبية كتلك التي تشهدها الآن بعض الدول العربية، ربما كان قبل عشرات السنين، فضلا عن أن ساحة تلك الثورات الشعبية كانت في أوروبا الشرقية قبل أكثر من عقدين، وأن ثمة اختلافات تتعلق بطبيعة الثورة، وبدوافعها، وبثقافة البيئة التي شهدتها في شرق أوروبا، وبمن قامت لتطيح بهم، وبمن قاموا بدعمها، كل تلك العوامل لا تسمح باستنساخ النموذج او استخلاص الحلول الأوروبية الجاهزة، لمواجهة استحقاقات ثورات عربية تختلف كثيرا، بدوافعها، وبظروفها، وبمنطلقاتها الثقافية والفكرية. ثالثاً: أن هذا الاختلاف لم يستتبعه فحسب، حرمان الثورات العربية من نموذج تترسم خطاه، أو من دليل استرشادي يشرح أفضل الطرق لانتاج الثورة او لاستخدامها كآلية للتغيير، وإنما استتبعه ايضا بروز قوى وتيارات خرجت في أعقاب الإطاحة بالنظام في مصر وفي تونس تبشر بدولة الخلافة وتفتش بين الصفوف عن «الخليفة المنتظر» فيما كانت قوى وتيارات أخرى تتمسك بأهداب حلم الدولة المدنية الحديثة، فيما كان الجميع مختلفين فيما بينهم حول مفاهيم اساسية تبدو بديهية مثل ، معنى «الدولة» وما المقصود ب «المدنية» وماذا تعني «الحداثة» في هذا السياق. رابعا: أن ثمة طبيعة ميزت مفهوم الثورة الشعبية في القرن الحادي والعشرين، مستلهمة ثورة تقنيات الاتصال ، سمحت لقوى الثورة بالتجمع والاحتشاد في عالم افتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذه القوى فوجئت على ما يبدو في ساحات اللقاء بميدان التحرير في مصر وسائر الميادين الأخرى، بأنها تتعارف وتلتقي لأول مرة، وأن ثمة مسافات واقعية تفصل بين رموزها وافرادها، لم يسمح الفضاء الالكتروني عبر الانترنت، لا بالتعرف عليها، ولا باكتشافها في لحظات الاحتشاد المبكر، حتى بدا الثوار في لحظة اللقاء كعروس تشاهد عريسها لأول مرة في ليلة الزفاف بمخدع الزوجية.. وهكذا فلم تكن ثمة فرصة لتعارف حقيقي دون حواجز، ولا كانت هناك فرصة لانتخاب رموز وقيادات تمنح الثورة رأساً وعينين، وتتيح لها فرصة امتلاك الرؤية لمشروع سياسي ما، سوف يتم بناؤه بعد الانتهاء من هدم قواعد النظام القديم. خامساً: أن فئة «المؤلفة قلوبهم» ممن خرجوا للحاق بركب الثوار عقب الإطاحة بالنظام السابق، قد استعجلوا جني ثمار ما بعد سقوط النظام، ولهذا خرجت مظاهرات ذوي المطالب الفئوية تستعجل مطالب مثل رفع الرواتب، وتحسين الأجور، وتوظيف العاطلين، وخرج آخرون محتجين على ما اعتبروه تأخيرا من الثورة في انجاز «العدالة الاجتماعية»!!.. وهكذا فهؤلاء «المؤلفة قلوبهم» وهم الكثرة الغالبة ممن يصفهم المصريون ب» حزب الكنبة» أو الأغلبية الصامتة، باتت تظن أن الثورة التي لا تحقق العدل الاجتماعي بضربة واحدة، تستحق أن يغادروا «الكنبة» من أجل إسقاطها. سادساً: أن ما يحدث هو حراك ما بعد الموجة الأولى للثورة،بعدما اتسع الفضاء الذي امتد اليه هذا الحراك، وأن ثمة موجات متلاحقة تتجمع الآن في أعقاب الموجة الأولى ، بعضها سوف يكمل عملية «الهدم الثوري « الضرورية، لكن بعضها الآخر قد يطيح في طريقه ببعض قوى الثوار أو حتى ببعض انجازات الثورة. سابعاً: أنه ينبغي الإدراك مبكراً بأن هذا هو شأن الثورات الشعبية، فهي ليست مشروعا واحدا للهدم وإعادة البناء حمله أحد الجنرالات فوق دبابة وضمنه «البيان رقم واحد»، وإنما هى عملية ديناميكية تبدأ ب «القتيل رقم واحد» مع سقوط أول الضحايا في صفوف الثوار، وتستمر في بلورة رؤيتها، وامتلاك مشروعها، ضمن حراك «ثوري»،و في فضاء ثورى ، تتحدد أبعاده، ويتقرر وزن كل القوى السياسية فيه، طبقاً لنتائج صراعات الرؤى والتصورات لدى أصحاب المشروعات الإصلاحية، أوالرؤى الثورية. ثامناً: أن «الخوف من التاريخ» ربما كان وراء ما يبدو من تردد في خطى القوى التي عهد اليها الثوار بحماية الثورة، وهو ما بدا جليا في مداخلة هاتفية لأحد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مع أحد برامج «التوك شو»، فالرجل تحفظ على المساس بنسبة الخمسين بالمائة عمال وفلاحين في الدستور الجديد بدعوى أنه لا يجوز المساس بأحد أهم مكتسبات ثورة يوليو 1952، ناسيا أن ثمة ثورة شعبية أكبر وأهم بكثير قد أطاحت ضمن ما أطاحت ب»نظام يوليو»، وقد برر الجنرال مخاوفه بالقول: ماذا سيقول عنا التاريخ؟! وكأنما حجز موقع مميز في صفحات التاريخ رهن بما لم نفعله وليس بما فعلناه، وهو نفس منطق النظام الذي أطاح به ثوار التحرير، حين كان يردد أنه «يكفي أن الرئيس (السابق طبعاً) قد جنب البلاد خوض حروب أو مواجهات جديدة. فكان صاحب الفضل فيما لم يفعله، ولم يكن صاحب فضل بما فعل. تاسعاً: لهذه الأسباب ولغيرها كثير مما لا يتسع المجال لعرضه، فأنا لا يقلقني ما يحدث، ولا أراه تهديدا لفرصة تغير كبير لاحت سواء في مصر أو في تونس، وإن كان أكثرما يثير القلق هو صعوبة إدارة ثورة ما تزال في «طور المراهقة»، وهو ما يتطلب قدرا من الصبر وقدرا من الحلم ليس أكثر.. فما يعتور الثورة الآن هو مجرد « طور» سوف تتبعه بالضرورة وبالمنطق أطوار أخرى تحمله الى آفاق النضوج. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (31) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain