السفر في الديار والسير في الأرض لهدف نبيل متعة روحيّة وجولة ذهنيّة قال تعالى: (قل سيروا في الأرض) وقال أبو تمام: خلِيفَةُ الخِضْر من يَربَعْ على وطنٍ في بَلْدَةٍ فظُهورُ العِيسِ أوطاني بالشَّامِ أهْلِي، وبغدَادُ الهَوى وأَنَا بالرَّقَّتينِ وبالفُسطاطِ إخوانِي وأواصل أخبار الرحلات خارج البلاد، فقد سافرتُ قبل مدة إلى اندونيسيا والصحبة هم الأولون في سفري إلى الهند وغيرها، وارتحلنا من الرياض بالطائرة إلى جاكرتا، ومدة السير أكثر من تسع ساعات، وللفائدة فإن عليك أن تحرص على استصحاب ما يلزمك في السفر ولا تنسَ المصحف والكتب المفيدة، والسفر الطويل في الطائرة ممل ومزعج إلا إذا استحسنت استغلاله في ذكر وتلاوة وقراءة ونوم ومحادثة صديق يطرح عنك الكلفة، ويبهج روحك بحديثه، ولما أشرفنا على جاكرتا العاصمة هالنا خضار الأرض والطبيعة الخلاّبة، فهي أرض الأشجار والأنهار والأمطار فسبحان الواحد القهّار، وكنّا دُعينا لحضور معرض الكتاب الدولي، وكان معنا الأخ الكاتب الصديق ثامر المحيميد الذي سبق له أن شاركني في الضحكة المشهورة على الهواء بقناة اقرأ نفع الله بها المسلمين والمسلمات وهو الذي حمل الدعوة لي من حكومة اندونيسيا، فلما حضرنا الحفل كان رئيسه نائب الرئيس الاندونيسي، وقد سرّني أنه تحدّث عن كتابي (لا تحزن) والذي تُرجم بالاندونيسية ولقي قبولًا واسعًا -أسأل الله أن يمنحكم الصبر على سماع أخبارنا عن كتاب لا تحزن من كثرتها- وقد أعجبنا منشدان اندونيسيان أنشدا قصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم جذبا الجمهور وأبكيا الكثير، وقد زرنا رئيس البرلمان ووزير الثقافة وبعض الشخصيات المعتبرة في جاكرتا، وكانوا يقبلون على المحاضرات وينصتون لما نقول محبين للحرمين ولأهلها، ومعنا الشيخ عبدالله من اندونيسيا، وقد تخرّج من الجامعة الإسلامية بالمدينة، فإذا قلتُ جملة ترجمها، وأظنه بثقافته يزيد من عنده للفائدة فأسمع أسماء ما قلتها، وأراهم يهزّون رؤوسهم ويعجبون، ولفت نظري جامع الاستقلال في جاكرتا الذي يتسع لألوف مؤلّفة لضخامته، وسرّني إقبال الناس على الصلاة، والعجيب أن اندونيسيا سبعة عشر ألف جزيرة، فيها مائتان وأربعون مليون من المسلمين الذين اعتنق أجدادهم الإسلام على يد التجار المسلمين، خاصة الحضارم لما أُعجبوا بصدقهم وأمانتهم وصلاحهم ولم يدخل جيش مسلم اندونيسيا فاتحًا، وإنما دخلت اندونيسيا الأخلاق النبيلة والسيرة الجميلة للوافدين من بلاد الإسلام، وهذا يدلك على أن الرفق واللين والعمل بمبادئ الإسلام في الدعاة أعظم أثرًا في المدعو من الجيوش الجرارة والأسلحة الفتّاكة، ومما جذب انتباهنا حديقة الحيوان بضواحي جاكرتا والتي لم أشاهد مثلها في العالم، حيث إنها متسعة جدًا تحتوي على غابات وهضاب وسفوح خضراء وأودية وبحيرات وفيها عدد هائل من الحيوانات بأشكال وألوان من زواحف وكواسر ودواب أليفة ومفترسة، ولقد وقفنا عند الأسد بالذات، فإنهم جعلوا له شبكًا خاصًا قويًا في وسطه غرفة، وقد رأيناه راقدًا فوق الغرفة والجندي خارج الشبك بسلاحه يحرس الغرفة، فقلنا للأسد: يحق لك أن تكون ملك الغابة، وتذكّرتُ بيتين جميلين سبق أن نظمتهما، وقد عجز كبار الشعراء أن يأتوا بمثلهما حيث قلت: كن أحمر العين إن المجد منتَهَبٌ وكن فديتك مغضوبًا ومرهوبًا لم تنفع الشاة في الدنيا سكينتُها والليثُ ما ضرّه أن ليس محبوبًا ثم صعدنا إلى رأس جبل قريبًا من مدينة بوندو وسبحان الخالق كيف صوّر ذاك الجبل أشجار من كل لون تصافحك أغصانها، وأنت في السيارة بأكمام من الزهر ما بين أحمر وأخضر وأبيض وأصفر (حدائق ذات بهجة) مع شلالات المياه، فمكثنا بقمة الجبل في سكن مرتّب جميل، وعند الفجر اهتزت الجبال التي بحولنا بأصوات المؤذنين، فيالعظَمَة الإسلام الذي ارتجفت له القلوب والجبال والبحار والمحيطات، واعتنقته أمم الأرض من كل لون وجنس ولغة، والشعب الاندونيسي شعب كريم طيب ذكي مسالم يعمل بصبر، واندونيسيا دولة متحضّرة بها مصانع وإنتاج كبير، وهي قبلة للسياح والتجار والمثقفين، وهي من أحسن البلدان للسكنى؛ لحسن الطبيعة وفائدة الغذاء ونقاء الهواء وصفاء الماء لولا خطر الفيضانات، والمطر عندهم ضيف ثقيل لكثرة ما يزورهم، ولكنه يُحتاط له بنظام التصريف والأنفاق والسدود والبحيرات، حتى إنك تعجب بعد هطوله بدقائق لا تجد ماءً راكدًا في شوارع جاكرتا، فذكّرني هذا بحسن التصريف وتنظيم المياه وتصريف السيول بمدينة جدة حرسها الله من العين، وصدق بعض السلف رضي الله عنهم يوم قال: (جدة غير)، ثم عدنا سالمين غانمين وتركتُ في الأخبار تفاصيل لضيق المقام، ومع رحلة أخرى قادمة. بارك الله فيكم.