تحدثت في المقالين الأخيرين عن الشعراء العظام، وقلت بأنهم اولئك الذين يكتشفون دلالات جديدة للمفردات شائعة الاستخدام من ناحية ، وأولئك القادرين على تكثيف العبارة الواحدة ومنحها دلالات واسعة وغير مسبوقة . الشاعر العظيم أيضا هو ذلك القادر على توظيف التفاصيل الصغيرة لغويا ، للخروج بمعان مبتكرة تعكس قدرة غير عادية على الخلق . على سبيل المثال فإن القدرة على استخدام حروف الجر المناسبة بغرض منح الصورة الشعرية آفاقا جديدة أو بغرض تعميقها ، هو إحدى خصائص الإبداع الذي يرقى إلى مستوى العبقرية ذاتها . في أحد مقاطع قصيدة ( إرجع إلي ) يقول نزار قباني : (( يا من يفكر في صمت ويتركني )) . وهذا مثال آخر على عبقرية نزار وقدرته على توظيف التفاصيل اللغوية الصغيرة كحروف الجر ، لتعميق المعنى ، أو لمنحه دلالات إضافية ، أو لإكسابه زخما يجعله اكثر ثراء وقابلية للخروج باستنتاجات أو قراءات متعددة . الأصل في الجملة التي استخدمها نزار هو : (( يا من يفكر بصمت ويتركني )) . هذا هو الطبيعي والمنطقي ، وربما الصائب من الناحية اللغوية أيضا . لكن لجوء نزار إلى استخدام حرف الجر (( في )) بدلا من حرف الجر (( باء )) ، منح العبارة أو الصورة الشعرية دلالات أكثر عمقا بكثير . ذلك أن التفكير بصمت هو مجرد وصف لحالة شرود طبيعية ، على اعتبار أن الصمت هو سمة لازمة ومصاحبة لعلمية التفكير دائما . لكن أن يقوم الإنسان بالتفكير في صمت ، فهذا يعني أن يصبح الصمت عالما كاملا يمكن أن يستغرق الفرد ، وليس مجرد صفة لعملية التفكير أو حتى الشرود في حالاته المعروفة . الصمت في عبارة نزار يعني عالما مجهولا بالكلية ، والتفكير في صمت أو في ( المجهول ) بكل ما تحمله كلمة مجهول من دلالات في حالات العشق بالذات ، هو أمر يدعو للقلق ويدفع إلى التساؤل ويثير الشك حول مصير العلاقة نفسها ، لا حول الحالة التي تنتاب من هو متلبس بحالة شرود عادية . بدون شك فإن عبارة نزار تعكس ما تتمتع به اللغة العربية من ثراء ، لكن من سوى نزار قادر على اكتشاف ذلك الثراء ؟! [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (7) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain