فالإمام الشافعي وهو الذي يرى جواز إجبار الفتاة البالغة على الزواج خوفًا عليها من الفتنة، التي قد تجرها إليها الشهوة فتعمي فيها بصيرة الرشد، يرى أن ذلك متحققًا في الرجل، بل بالنص الشرعي الذي أورده مما يكون مبررًا قويًا في تساويه مع الأنثى في هذه النزعات النفسية، التي فطرها الله عليها، وعليه بين أن من حق الولي فرض الزواج عليه جبرًا حماية له ولمحيطه المجتمعي. وهي لفتة دقيقة من الإمام الشافعي رحمه الله في رصد المعتملات النفسية للجنسين، وإنصاف يؤكد حضور بصيرة الفقيه واقع الحياة والناس. قد نختلف معه في الإجبار وقد نتفق، إلاّ أننا لا نملك إلاّ أن نتفق معه على مبدأ المساواة الذي تؤسسه الشريعة الإسلامية حين تتعامل مع النفس الإنسانية كنفسٍ محترمة تعتملها جميع المشاعر والاحتياجات بغض النظر عن جنسها. ثم إن المرأة التي يتحدث عنها الفقهاء هي امرأة زمانهم التي عاشت تلك العصور وكان دورها في الغالب منحصرًا داخل بيتها، ولم يشهد لها زمنها حضورًا أو مشاركة كبيرة في التنمية الاجتماعية، وهي غير امرأة اليوم التي وصلت لأعلى المناصب والمراكز العلمية والإدارية تاركة خلفها بصمة عميقة الأثر لا يمكن إنكارها في جميع المجالات. امرأة كهذه كيف يملك المجتمع عدم الاعتراف برشدها وقدرتها على التصرف واتخاذ القرارات لغيرها، فضلًا عن اتخاذها لنفسها من باب أولى، فالقضية في منتهاها لا تعدو عن كونها عرفًا اجتماعيًا لحالة نفسية للجنسين في وقتٍ معين تغيره الأعراف والحراك الاجتماعي. 3- البكر التي عضلها وليها ومنعها من الزواج سواءً كان المانع أباها، أو غيره. 4- البكر التي زوجت بعَرَض -أي بغير الذهب والفضة- وهي من قومٍ لا يزوجون به، ولا أب لها ولا وصي ينظر في مالها. 5- البكر التي يزوجها غير أبيها. 6- كما لا تكره الفتاة على الزواج بذي عاهة. رابعًا: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو مستند الاتجاهات المختلفة في الولاية: (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صمتها)، ليس مقتضاه التفرقة بين البكر والثيب في الإجبار وعدمه بقدر ما هو إلماح متكئ على الواقع لنفسية المرأة بين الثيوبة والبكارة؛ فلما كانت الثيب أكثر خبرة بأمر الزواج، وربما تعرضت للفساد لو منعت، كان لها أن تخطب إلى نفسها، وأن تأمر وليها بتزويجها وتطلب الزواج. على خلاف نفسية البكر الأكثر ميلًا إلى الحياء وعدم الإفصاح، والتي رتب عليها الشارع أن يكون سكوتها إحدى العلامات التي ترجح قبولها للزواج، وإن كان ليس علامة يقينية حين يخضع للتغيرات الاجتماعية عبر الزمان والمكان، وقد لفت لذلك الإمام ابن حجر، وابن تيمية، وابن رشد الحفيد رحمهم الله، ولهم في ذلك كلام في غاية النفاسة. خامسًا: نظر كثير من فقهاء هذا الاتجاه إلى اعتبار رأي الأم في تزويج ابنتها لما له من أثر نفسي واجتماعي في استقرار حياتها الزوجية؛ استنادًا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أمروا النساء في بناتهن). يقول الحطّاب وهو أحد علماء المالكية: (لأنه إذا كان برضاها حسنت صحبة زوج ابنتها). سادسًا: القائلون بإجبارها يقولون بعدم جواز تزويج أمتها بدون رضاها فيكون القول برضاها لنفسها من باب أولى. سابعًا: يعتبر القائلون بالإجبار المرأة رشيدة في مالها لا تجبر على تصرفٍ معين فيه، كما لا يجوز التصرف فيه دون رضاها، فإن كان هذا شأن المال الذي لا يترتب على ضياعه مفسدة بحجم ضياع النفس والمجتمع فيكون في شأن النفس من باب أولى. وبهذا يظهر أن خلاف الفقهاء حول اعتبار رضا المرأة في العقد بالتفاصيل التي أوردتها عنهم لمؤشر قوي على إحساسهم بالأبعاد التي تحدثت عنها، وإدراكهم لآثار الإجبار في تعاسة الفتاة وإلحاق الضرر بها، وربما عدم إعفافها الذي هو المطلوب الأعظم للزواج عندما لا تكون مقتنعة بالزوج، وربما أدى بها ذلك إلى التطلع لغيره مما ينعكس سلبًا على أسرتها وعلى المجتمع. وهذا يعضد أن أحكام الفقهاء لم تنفك عن النظر المقاصدي في الإصلاح على الصعيدين النفسي والاجتماعي قصدًا إلى إرساء سفينة المجتمع بما فيه من تقاطعات حقوقية، فردية وجماعية على واقعٍ متسقٍ سعيد، سفحه الأمان، وقمته سعادة الإنسان. يروي الإمام ابن أبي شيبة عن السيدة عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت إذا هوى الفتى من بني أخيها الفتاة من بني أختها ضربت سترًا بينهما وتكلمت فإذا لم يبق إلاّ النكاح قالت: يا فلان أنكح فإن النساء لا ينكحن). وهذا الأثر عن السيدة عائشة رضي الله عنها وبعد نظرها يهوِّن الخلاف حول اعتبار كلمة المرأة في العقد ومباشرتها له بنفسها. لأن الزواج متى تأسس على أرضية اجتماعية جيدة متفهمة لرغبة ورضا أفرادها لن يضير بعدها من يباشر العقد. بل عندها يظهر الدور الحقيقي للأولياء كما أراد الشرع في معاضدة المرأة ومساندتها في أهم قرار تتخذه لنفسها، ويكون تولي عقدها بعد موافقتها مشاركة لها في فرحتها؛ وإرفاعًا لقدرها ومكانتها؛ ونيابة عنها في وقتٍ تكون فيه مشغولة بما يتطلبه الزواج من أمور زينتها، فيتم في جو مملوء بالحب والسعادة. يعضد هذا المعنى مفهوم الولي في اللغة المتردد بين هذه المعاني جميعها، فهو الصاحب، والنصير، والمحب، والحليف، والشريك، والقريب، والجار، وليس هو المستبد، أو المتسلط، أو القائم عثرةً في سبيل سعادة المولى عليها. وهكذا يظهر أن الفقهاء عاشوا واقع أزمانهم بأحداثه وتفاعلوا معه ربما أكثر مما صنع خلفهم، ومما صنعنا نحن أيضًا. • أستاذ الفقه المساعد بجامعة الملك عبدالعزيز