قبل 40 عامًا قام هنري كيسنجر بواحدة من أهم مهماته السرية، يوم كان مستشارًا لشؤون الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون. الرحلة كانت إلى الصين. والهدف كان كسر الجمود بين الولاياتالمتحدة والصين الرمز الشيوعي القوي بزعامة ماوتسي تونج. اليوم صدر كتاب جديد لكيسنجر بعنوان (عن الصين) OnChina. وعن الكتاب سأله المفكر والإعلامي الأمريكي فريد زكريا في برنامجه GPS الذي تذيعه CNN عن دور الصين المتعاظم اليوم، فقال: (لم يكن في الحسبان -آنذاك- أن تصبح الصين قوة عظمى تنافس الولاياتالمتحدة اقتصاديًّا وتقنيًّا). وأضاف كانت الصين تجامل الولاياتالمتحدة في كثير من المواقف السياسية، مقابل نقل كثير من التقنيات إليها، لكن يبدو أن العملاق الصغير قد شبّ عن الطوق اليوم، وبدا أكثر استقلالية، وقوة، ونضوجًا. هكذا هي المصطلحات المتلونة، فالاستقلالية التي يعنيها كيسنجر هي -بالنسبة للصينيين- اهتمامًا بمصالحهم، ولذا عندما تتعارض هذه المصالح مع سياسات الولاياتالمتحدة تدخل ضمنيًّا في باب الاستقلالية؛ لتبدو وكأنها تمرّد على التاريخ القديم، أو الممارسات السابقة. قبل 22 عامًا انهار الاتحاد السوفيتي، وانهارت معه منظومة البطش والقمع التي غلبت على العالم الثاني، فاختفت دول مثل ألمانياالشرقية، وتفككت أخرى مثل يوغسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي نفسه. ولم يعد للولايات المتحدة منافس تقليدي رادع من الناحية العسكرية، أو متفوق من الناحية التقنية. ومع ذلك لم تحسن الولاياتالمتحدة استغلال هذه الفرص الذهبية لتقود العالم أخلاقيًّا، وتقلص من حجم العنف، والاستبداد، ونهب الثروات، والفقر، والفساد، بل إنها داست على كثير من القيم والمبادئ خدمة لمصالحها الضيّقة وسياساتها الآنية. ولأن الكون عالم صغير يحرّكه الخالق البارئ كيف يشاء، فإن هذه الزعامة التي لم تُرعَ حق رعايتها آيلة إلى الانتقاص، إذ تتنازعها قوى وليدة أخرى مثل الصين، وربما الهند مستقبلاً. بقي أن نعترف بأن الصين عملت لهذا اليوم على مدى 40 عامًا بدأب، وجهد، وقوة، وتفانٍ، بالرغم من شمولية النظام، وتحكم النخبة، ومركزية القرار، لكن يبدو أن نصيب الفساد من ذلك كله قليل. [email protected]