إنَّ العقائدَ والعباداتِ لا تُعرف إلاّ من خلال تصرّفات معتّقديها، والمؤمنين بها؛ لأنَّها في البدء والخاتمة سلوكٌ، فينبعث ذلك الصّدق، أو هذا القبح على هيئة أفعال، وحسنها يتبدّى في أنها تكاليف تُناط بالفرد الواحد، والجماعة الواحدة، والأمّة المجتمعة. اقرأ معي قوله تعالى: “ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة”. هذا هو المبدأ.. مبدأ دعوي فريد: (حكمة).. و(موعظة حسنة)، وذلك المبدأ الدعويّ تمثّله النبيّ عليه الصلاة والسّلام سلوكًا ممارسًا في كل ما يصدر عنه من تعاملات مع المخالفين، أو الجاحدين والكافرين به، فضلاً عن أصحابه الأقربين. فأسر بذلك التّمثّل قلوب الطّرفين، واستحوذ عليهم بصدق التمثّل في كلّ صغيرة وكبيرة، فكان بحق داعيةً إلى ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة. ونقل ذلك التّمثل أصحابه من بعده، فكانوا بذلك أداةَ بناءٍ وتعميرٍ، لا أداة هدمٍ وتقويضٍ!. ثم سار على ذلك النهج بعض حملة ألوية الخير في كل عصر من العصور، حتّى بدا الأمر في تلاشٍ بفعل بعض السّقطات الدعوية غير المسؤولة؛ وسقط من الحسبان جوهر الآية!!. ومن منطلق التمثّل الصّادق لذلك الجوهر، قامت أكبر دولة إسلامّية عرفها التأريخ آنذاك؛ في زمن قصير لا يُحسب في التّواريخ والأزمان! فكان الفتح الإسلامي فتحًا إنسانيًّا خلّاقًا ومدهشًا عمّ أرجاء المعمورة؛ لا فتحًا همجيًّا كما يروّج له البعض؛ أو تكريسًا للغة الدّم، وصليل السيوف، وتصويب الرماح -كما يقول بذلك بعض الجهلة- حين يعرضون للفتوحات التاريخيّة المتلاحقة إبّان عظمة الإسلام، وتوهج أتباعه. أليس التأريخ خير دليل، وأصدق برهان؟! بلى، إنَّ مَن يقرأ تاريخ الفتوحات الإسلاميّة يلحظ بجلاء أنَّ الإسلام شعَّ نوره، وعمَّ خيره بين أبناء القارة الإفريقيّة الذين اتّصلوا بالبلاد الإسلاميّة في أقل من مئة وخمسين سنة، فهل كان ذلك الفتح فتحًا بالسيوف الداميًة، والجيوش الجرّارة؟ أم كان بالحكمة والموعظة الحسنة؟!. وما أبناء القارة الهنديّة وما جاورها عنا ببعيد، فأتباع الإسلام في تزايد مطّرد إبّان الفتح المبارك حين عُرض عليهم الإسلام عرضًا يُرى بالفعل الحسن، والقدوة المثلى، فبقي المسلمون على ما هم عليه من إيمان واتّباع إسلام. ومَن يُعد قراءة تاريخ الفتوحات الإسلاميّة قراءة أكثر صدقًا وأمانةً؛ استجلاء للحقائق المُغيّبة، والسقطات الفكريّة المتتالية يتبدّى له وباعتراف الأعداء أنَّ كل تلك البلاد التي دانت للإسلام لم تُدن لهم بالقوّة والإكراه؛ بل بالإقناع، والقدوة الحسنة، من خلال تمثّل الدّاعين إليه بالمثل العليا، والدعوة بالحسنى. يقول أحد المفكرين: “وأيسر من استقصاء الحروب وأسبابها في صدر الإسلام أنَّ تُلقي نظرةً في خريطة العالم في الوقت الحاضر لتعلم أنَّ السبب لم يعجل في انتشار هذا الدِّين إلاّ القليل ممّا عليه الإقناع والقدوة الحسنة..”. وبعد.. فهل نستوعب الدّرس، ونعيد النّظر في جوهر الآية: دعوة بالحكمة المفقودة، وتمثلاً صادقًا بالموعظة الحسنة؟!