في مقدمته التي كتبها لكتاب “اكتشاف جزيرة العرب” يقول علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- عن الرحالة الغربيين: لا مغالاة في القول بأن لكثير من علماء الغرب من مستشرقين وغيرهم، يدٌ طُولى في إبراز معالم جزيرة العرب، وفي كشف ما خفي من آثارها، فضلًا عن ما لهم من فضلٍ في إحياء التراث الإسلامي، والشرقي، بوجه عام” (1). ويستطرد الجاسر -رحمه الله- قائلًا: “هناك فئة أخرى من هؤلاء الغربيين هي فئة الروّاد من العلماء والمغامرين الغربيين، الذين كشفوا كثيرًا من معالم جزيرة العرب وآثارها، وعرفوا المجهول من مختلف أخبارها وأحوالها، بعد أن جاسوا صحاريها، واخترقوا فيافيها وقفارها، ووصلوا إلى أصقاعها النائية، وتوغلوا في مجاهلها، مدفوعين بدوافع مختلفة، مستهينين في سبيل ذلك بجميع الأخطار والصعوبات، مهما بلغت من شدة وعنف، ضاربين أروع الأمثال بصبرهم وجلدهم، وتحملهم لنمط من حياة الشظف والقسوة، قلّ أن يستطيع ابن الصحراء نفسه أن يجاريهم في تحمّله في هذا العصر” (2). أحد هؤلاء الرحالة الغربيين هو الفرنسي “جيل - جرفيه كورتلمون”؛ الذي أسلم وسافر إلى مكةالمكرمة لأداء فريضة الحج وكذلك إلى المدينةالمنورة للصلاة في المسجد النبوي الشريف والتشرف بالسلام على رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، وكتب عن رحلة حجه كتابًا وسمه “رحلتي إلى مكةالمكرمة”. وقد جاء في هذا الكتاب تعريف لمؤلفه الرحالة كورتلمون ما ننقل منه هنا بتصرف: جيل جرفيه - كورتلمون (3): ولد الرحالة الفرنسي كورتلمون في “أفون” في 15 من محرم عام 1280ه الموافق الأول من يوليو عام 1863م، وهو الولد الوحيد لأبيه لويس فكتور جرفيه، كان أبوه ميسور الحال وكانت أمه ربة بيت، وتعزف على البيانو، مما مكنها من إعطاء دروس في هذه الآلة. وكان لهذه العائلة صديق اسمه لويس ألفونس كورتملون، ذو دخل مناسب أيضًا، ويعمل ضابطًا في جوقة الشرف، وله ابن يعمل في سلك الجندية الفرنسية. لما مات والد جيل سنة 1284ه الموافق 1868م تزوج ابن صديق الأسرة أرملة جرفيه، والدة جيل. غادرت الأسرة كلها للعيش في الجزائر سنة 1290ه الموافق 1874م، فاستقرت في “غلزان”، وهي منطقة صحراوية قاحلة، تقع بالقرب من الجزائر العاصمة، وكانت فرنسا تطبق آنذاك سياسة إعمار الأرض التي في شمال إفريقية بالمعمرين الفرنسيين ضمانًا لاستمرار احتلالها والسيطرة عليها. بعد هذه الرحلة تقاعد زوج أم جيل من سلك الجندية ليستقر نهائيًا في هذه الأرض، وقد وصل إلى درجة ضابط كبير. بعد ذلك حلت بالجزائر كارثة بيئية فقدت الأسرة إثرها كل ما كانت تملكه في المزرعة التي كانت تديرها هناك، ولم يبق مع العم كورتلمون إلا مبلغ نقدي يقدر بسبعين ألف فرنك. انتقلت الأسرة كلها بعد هذه الكارثة للعيش في منطقة “مينة”، حيث استطاعت الحصول على قطعة أرض أخرى صالحة للزراعة. ولما وجدت الأسرة نفسها معزولة في هذه المنطقة بدأت الأم تتردد إلى بعض نساء القرية المجاورة، فعقدت الألفة مع الجيران وأصبحوا جميعًا أصدقاء. اشترى زوج أمه ل “جيل” بندقية صيد، فشرع جيل يجوب الغابات برفقة مجموعة من شباب القرية بحثًا عن الصيد، وبذلك تعود منذ صباه على التقشف. مرة أخرى حلت بالأسرة كارثة زراعية جديدة، فقدت إثرها كل شيء، ولم يبقَ للضابط القديم إلا راتب التقاعد، فغادرت الأسرة المزرعة وكان عمر جيل آنذاك أربع عشرة سنة، فتُركَ فيها وحده يواجه مصيره بلا معين أو مال إلا من مساعدة أهل القرية. انتقل جيل بعد سنوات إلى الجزائر العاصمة لدراسة التلغراف، فتلقى فيه تدريبًا جيدًا وكان يقرأ عنه كثيرًا، وتابع الدروس الليلية إلى جانب صديقه جول لومتير. كان شغوفًا بحب الاستطلاع، فشرع في الاهتمام بالإسلام، هذه الديانة التي كانت تحيط به من كل جهة في حياته منذ وصوله إلى الجزائر. في هذه الفترة كانت توجد في الجزائر جمعية كبيرة يطلق عليها اسم: جمعية كونكورديا، تضم الأدباء والمثقفين، وأغلب أعضائها من علية القوم في الجزائر، ويصبح كثير من أعضائها من كبار الصحافيين في الجزائر وباريس، ومن المختصين في المعاملات التجارية الكبرى وغير ذلك. عقد “جيل” صداقات مع عدد من أعضاء هذه الجمعية، وعرف كيف يستغل هذه الصداقات. وكان جيل قد ارتبط قبل ذلك مع زوج أمه بعلاقة قوية لدرجة أنه قرر أن يحتفظ باسمه، وأصبح يوقع باسم جرفيه - كورتلمون. وأحيانًا كثيرة يوقع بكورتلمون فقط. كما أن زوجته “هيلين” أصبحت تعرف باسم السيدة كورتلمون. مات زوج أمه سنة 1307ه /1890م وكان عمره حينذاك سبعًا وعشرين سنة، فتولى بنفسه البحث عن وسيلة للعيش له ولأمه. ولأنه كان مصورًا بارعًا فتح في أحد شوارع الجزائر العاصمة معرضًا صغيرًا لبيع صور “النقش الضوئي”. وكان كورتلمون محبًا للترحال، فسافر إلى مناطق مختلفة من الجزائروالقاهرة والقدس ودمشق، وعاد بزاد من الصور التي نشرها في مجلته، أو عرضها للبيع في معرضه في شارع الألوان الثلاثة بمدينة الجزائر العاصمة. تزوج من ابنة أحد أصدقائه (هيلين) قبيل رحلته إلى مكةالمكرمة وأنجب منها بعد عودته ولدًا سمَّاه عبداللّه، ثم قام برحلة إلى إقليم التبت (يونان) في الصين عام (1319ه/1902م) ونشر مسترد رحلته إليها في كتاب تحت عنوان «رحلة اليونان» عام (1321ه/1904م) واستغرقت تلك الرحلة أكثر من سنة. وبعد عودته من يونان ذهب إلى باريس، وفتح معرضًا لبيع الصور الملونة التي كانت تعد من أحدث التقنيات في ذلك العصر. وكان يلقي محاضرات عن رحلته وخاصة رحلته إلى مكةالمكرمة ويعرض صور تلك الرحلات. سافر إلى تركيا مرةً بمفرده والأخرى مع زوجته عام (1326ه/1908م) ثم ذهبا معًا إلى تركيا مرةً أخرى عام (1328ه/1910م). وعايش كورتلمون إنشاء سكة حديد دمشق - المدينةالمنورة. وقد اشتغل في هذه السكة خمسة وخمسون مهندسًا تركيًا، بالإضافة إلى مهندسين غربيين: أحدهما فرنسي والآخر ألماني، كما تمت الاستعانة بنحو سبعة آلاف جندي من الجيش التركي، وقد كلف ذلك المشروع 93 مليون فرنك فرنسي، ويبلغ طول السكة 1300 كلم، وقد دشنت مع نهاية فصل صيف سنة (1328ه1910م). وكان انتشار الوباء خلال رحلة كورتلمون إلى مكةالمكرمة قد منعه من زيارة المدينةالمنورة للصلاة في مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والتشرف بالسلام عليه، لذا فقد عمل المستحيل للتوجه على متن القطار إلى المدينةالمنورة من أجل التقاط الصور الملونة للمسجد النبوي الشريف على وجه الخصوص، والمدينةالمنورة على وجه العموم (4). وفي أوائل سبتمبر عام (1910م) استقل كورتلمون القطار مع أعضاء لجنة تنظيمية كان قد تقرر إرسالها لحضور حفل تدشين محطة سكة الحديد بالمدينةالمنورة. وقد قام كورتلمون بالتقاط صور كثيرة منها صور للمسجد النبوي الشريف، وهي من أقدم الصور الملونة لهذا المسجد، وتوجد هذه الوثيقة التاريخية في المتحف السينمائي روبير لينين في مدينة باريس (5). وفي عام (1330ه - 1912م) سافر كور تلمون إلى الهند والتقط كثيرًا من الصور الملونة لما كان يظن أنه مفيد فني (6). خط سير رحلة كورتلمون إلى مكةالمكرمة: تقدم كورتلمون بطلب بعثة علمية إلى وزارة التربية العامة، ولكن وزارة الخارجية التي استشيرت في الموضوع رفضت ذلك الطلب ونصحته بالتراجع عن مشروعه للسفر إلى مكةالمكرمة فتقدم كورتلمون بطلبه إلى الحاكم الفرنسي العام في الجزائر، الذي وافق على ذلك ولكن على مسؤولية صاحب الطلب الخاصة. وتم إعطاؤه جواز سفر باسم عربي هو (عبداللّه بن البشير) (7). سافر كورتلمون بعد ذلك إلى فرنسا لإجراء بعض الترتيبات، ومن هناك توجه إلى السويس لمرافقة قافلة المحمل المصري مع بعض أصدقائه. إلا أن ظروفًا أجبرته على التأخر عن ذلك الموعد والعودة إلى الجزائر التي غادرها بعد ذلك هو وصاحبه على متن باخرة تدعى (كلوكوز-Glaucus) كانت تتبع شركة (هولتز-Holtz) وكانت هذه السفينة تقوم برحلة أسبوعية بين الجزائر العاصمة وبورسعيد، إلا أنها كانت ستقوم بالسفر إلى جدة مباشرة في تلك الرحلة بعد الوقوف في بورسعيد والسويس وقد استغرقت رحلتهم إلى جدة عشرة أيام. يقول كورتلمون أنه عندما وصلت السفينة إلى جدة: «انتظرنا طويلا وصول أحد المرشدين، إذ يصعب على السفينة «كلوكوز» أن تزحف إلى مسافة أكثر نحو الساحل، وأخيرًا جاء المرشد فصعد إلى جسر السفينة. إنه رجل يرتدي بدلة طويلة، وعلى رأسه عمامة متواضعة، لون عينيه أسود أدكن، كما لو أنهما محترقتان، يحدق في الأفق دون أن يرمش، ويعطي أوامره المتعلقة بإجراءات الوصول باللغة الانجليزية». ثم يستطرد الرحالة قائلًا: «رسونا على مسافة عدة أميال من البر، أكثر من المسافة المعتادة لأن ربان سفينتنا شديد الاحتياط، فهو لا يريد الزيادة في عدد السفن التي غرقت على الساحل الممتلئ بحطامها، إذ نرى هنا سفينة تجارية مشطورة إلى نصفين وهناك يظهر لنا على سطح الماء، شراع وبجانبه قمة مدخنة، وبموازاة ضفة البحر تنتشر علامات صخور متموجة تبرز في مستوى سطح المياه تدل على وجود أرصفة مرجانية مما يشكل تهديدًا دائما للسفن (8). وبعد أن قضى كورتلمون فترة من الزمن في جدة قرر السفر إلى مكةالمكرمة وبدأ استعداداته للرحلة. الطريق من جدة إلى مكةالمكرمة: عندما سافر رحالتنا من جدة إلى مكةالمكرمة وصف مسار رحلته من جدة إلى مكةالمكرمة، ووسيلة النقل التي استخدمها لذلك، والمدة التي استغرقتها الرحلة في كتابه ما ننقل منه هنا بتصرف: أصبح كُل شيء جاهزًا للانطلاق، توضأت الوضوء الأكبر، ولبست ثوب الإحرام. ها أنا ذا على الطريق امتطي حماري، عاري الجذع، حليق الرأس، في الساعة الثانية ظهرًا، تحت وهج شمس محرقة. سرنا في منبسط مرمل نحو 16 كلم، ثم ارتفع الطريق بشكل غير ملحوظ، منزلقًا بين جبال الحجاز الجرداء، التي تتتابع خلجانها، الشبيهة بالبراكين الخامدة، كحبات سبحة طويلة. لقد سوت حوافر القوافل، بمرورها على مر السنين، الصخور التي كانت تشكل عوائق على الطريق، فأصبحت الطريق مستوية تشبه تمامًا مجرى وادٍ رملي جاف. ينزل الظلام في هذه المنطقة بشكل مفاجئ تقريبًا، وفترة الغروب لا تستغرق وقتًا طويلًا، كما أن نور القمر الخافت لا يظهر إلا نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل» (9). ثم يصف هذا الرحالة وقوفهم للراحة في «حدة» التي تقع في منتصف الطريق بين جدةومكةالمكرمة فيقول: نحن الآن في قرية «حدة»، في منتصف الطريق أنزلنا أغراضنا عن ظهور الحمير، صلينا جماعة، ثم قُدم لنا الأكل» (10). وبعد مغادرتهم «حدة» يقول كورتلمون عن بقية الطريق: «ومرة أخرى وجدنا أنفسنا من جديد في المنخفضات الدائرية، وهي حفر سوداء بعيدة القرار، فأخذتني سنه من النوم، وبدأت في الحلم» (11). الوصول إلى مكةالمكرمة: يقول كورتلمون إنه عند حدود مكةالمكرمة رأى عامودين من الأسمنت تشير إلى بداية حدود الحرم يشبهان باب المزرعة يبتعد بعضها عن بعض عدة أمتار. استمر رحالتنا في السير مع رفاقه باتجاه المدينة المقدسة ووصل إليها بعد تجاوز أحد منعطفات الطريق. ويصف هذا الرحالة الفرنسي المسلم مدخل مدينة مكةالمكرمة فيقول: تختفي مكة بين جبلين يقتربان بعضهما عن بعض، ولا نعلم بدخول المدينة إلا بعد دخول شوارعها الأولى. لا توجد نظرة شاملة تمكننا من مشاهدتها كاملة، فالشوارع تتابع، وكلها متشابهة، تستمر هكذا إلى الحرم الشريف الذي يمكن القول بأنه يتوارى في مكان ما أسفل المدينة، وتختفي عن النظر بشكل غامض، كما تختفي البيضة في قاع العش. المسجد الحرام: يصف كورتلمون الحرم الشريف قائلًا: دخلنا فناء الحرم الشريف بعد ترحيب مطوفنا عبدالرحمن بوشناق بقدومنا وهو المسجد الكبير والوحيد في مكةالمكرمة، ها هي ذي الكعبة المشرفة. (كان في مكةالمكرمة آنذاك مساجد أخرى - كاتب المقال). ثم يستطرد رحالتنا قائلًا: كانت الساعة تقترب من السادسة، وهناك بصيص نور وردي يضفي على جميع الأشياء مسحة الصباح الندية، فجلسنا في ساحة الحرم الشريف ينتابنا شعور من الإجلال والحب، وبعد برهة من التأمل شرعنا في أداء أولى الصلوات. ثم يصف لنا كورتلمون طوافه حول الكعبة المشرفة مع أحد أقارب مطوفة ويدعى أحمد بوشناق. فيقول: إنه تشرف بتقبيل الحجر الأسود بعد الانتهاء من الطواف. ووصف الحجر الأسود وقال إنه: على علو قامة رجل، ومغلف بقرص من الفضة السميكة وعرضه نحو 80 سنتميترًا، بشكل بيضاوي، رائحته تشبه العنبر الخفيف. ثم بعد ذلك وصف كورتلمون أداءه السعي الذي قال: إنه يتمثل بقطع المسافة التي تفصل الصفا عن المروة، والقيام بذلك سبع مرات، نصفها بخطوات عادية ونصفها الآخر بخطا مسرعة، «والصفا والمروة جبلان مكشوفان يبعدان بعضهما عن بعض بنحو خمسمائة متر، ومجموع المسافة التي نقطعها خلال السعي تصل إلى نحو 3500 متر». مدينة مكةالمكرمة بعدسة ذاكرة كورتلمون: يصف جيل - جرفيه كورتلمون في كتابه المشار إليه (رحلتي إلى مكة) هذه المدينة المقدسة وصفا مفصلًا ومزودًا بكثير من الصور التي تعد من أوائل صور مكةالمكرمة وجرى تداول بعضها على مر العقود والسنين وتنسب أحيانًا بعض هذه الصور خطأً لرحالة ولمصورين آخرين. ويبدأ كورتلمون في وصف منازل مكةالمكرمة فيقول: تتوافر جميع بيوت مكةالمكرمة على سطوح محاطة بأسوار منخفضة مبنية من اللبن المصفوف على شكل مربعات منسقة بين فراغات، وهذا الوضع يسمح بمرور الهواء بحرية دون أن يكشف الجار بيت جاره. ولا شك أن المكيين يصعدون كل مساء إلى السطوح ليناموا فيها خلال عدة أشهر من السنة. والتقط كورتلمون صورا بنورامية لمكةالمكرمة من أعلى أحد جبالها المحيطة بالحرم الشريف، بعد أن صعد إلى أعلى ذلك الجبل وضمّن بعض هذه الصور في كتاب رحلته المشار إليه. ويقدر كورتلمون عن سكان مكة خلال زيارته لها نحو 100.000نسمة (12). أسواق مكةالمكرمة: ويتحدث رحالتنا عن أسواق مكة وبعض ما كان فيها من بضائع فيقول: تنتظم المهن في أحياء، كما هو الحال في جميع المدن العربية، وكان كل يوم يمثل بالنسبة إلى استكشافًا جديدًا. ذهبنا في أحد الأيام إلى أحد باعة القماش، فتمكنا بعد أخذ ورد، وبعد مفاوضات طويلة، ونقاش أطول، من شراء حزام وعمامة وقفطان وقطعة من القماش، وذهبنا في اليوم التالي، إلى سوق العطور، لشراء قليل من البخور لصديقنا الحميم في الجزائر عبدالرحمن، وشيئا من زيت خشب الصندل والمسك لأصدقاء آخرين، وذهبنا في يوم آخر إلى الحي الذي تباع فيه صفائح الماء من أجل التزود بماء زمزم. يوجد بهذا الحي عدد كبير من الحرفيين يصنعون من دون توقف أوعية من القصدير، من جميع الأشكال والأحجام، معدة خصيصًا لتُعبأ بماء زمزم، وتراهم يُفْصِلون ويلحمون ثم يملؤون، ويبيعون بأنفسهم، في محلاتهم التجارية الصغيرة، وهذه الأشياء الصغيرة الغالية التي يأخذها كل واحد منا عند عودته إلى بلده.. إذا عدنا إليه بصحة جيدة، بعون الله. أما شراء الأشياء المصوغة، مثل خواتم الذهب أو الفضة، فتتطلب التحلي بالصبر. وتمثل الصياغات المكية مؤسسة حقيقية، يسيرها ويديرها، كما تسير المؤسسات الحكومية، أحد الشيوخ (شيخ الصاغة) وهو من حرفي المهنة نفسها. فهم صناع مهرة، يصنعون تحفًا جميلة بطريقة متقنة ومتأنية، مثل سلاسل من الذهب والفضة، كما يصنعون عددًا كبيرًا من الخناجر التي يطلق عليها هناك اسم «الجنبية» ويتمنطق بها جميع عرب الصحراء، وتوضع أغلب هذه الخناجر في أغمدة فضية مذهبة على شكل (كم). ويصف كورتلمون طريقة تسعير الذهب عن طريق تحديد سعر الدرهم والذي يقول إنه يعادل نحو (ثلاثة جرامات) والتي تعد الوحدة الأساسية في ميزان صفقات الصاغه وزبائنهم (13). ويقول كورتلمون: إنه لاحظ خلال تجوله في مدينة مكةالمكرمة وجود عدة ماركات من البضائع المستوردة من أوروبا، كالأقمشة والمواد الغذائية، والخردوات، وبعض البضائع الإنجليزية والهولندية، وبعض الماركات الألمانية والإيطالية وأيضًا ولكن بشكل نادر بعض الماركات الفرنسية (وخاصة السكر المكرر في مصفاة مارسيليا). ويخاطب كورتلمون عبر كتابه تجار فرنسا فيقول لهم: «لا يدخل في اختصاصي أن أعرف هل في إمكان التجار الفرنسيين المنافسة التجارية في هذه البضائع (مع التجار الإنجليز)، إلا أنني أؤكد أن هناك الشيء الكثير الذي يجب القيام به في هذا المجال، ولا أرغب في إثارة انتباه الفرنسيين إلى القماش فقط، بل هناك أيضًا المواد الغذائية، كالسكر والقهوة والأرز، والمعجنات، والبهارات، والفواكه، والأسماك المعلبة، بالإضافة إلى الألبسة وأدوات المطبخ والغسيل والأرفف والأدوات الأخرى (14). ما أن انتهى كورتلمون من زيارته إلى مكةالمكرمة حتى بدأ يفكر في رحلة العودة إلى جدة والتي سيسافر منها عائدًا بعد ذلك إلى بلاده عن طريق ينبع. بعد أن غادر جدة وصل كورتلمون إلى (ينبع) وقام بجولة فيها وتحدث عن أسواقها وبعض محتويات هذه الاسواق، كما تحدث عن سفينة إنجليزية كانت راسية بجانبهم وكانت محملة بالقمح الذي كانت الحكومة العثمانية قد أرسلته. ومن ينبع توجهت السفينة التي أقلت كورتلمون إلى السويس ورست في حوضه بعد يومين. ومن السويس سافر كورتلمون إلى فرنسا على متن سفينة النقل البحري السريع (ملبورن MELBOURNE) في جو بارد وممطر (15). --------------- المصادر: 1-قلعجي، قدري: اكتشاف جزيرة العرب، مكتبة مدبولي، القاهرة، (2006)، ص/5 2- المصدر السابق، ص/6 3- كورتلمون، جيل: رحلتي إلى مكة، ترجمة أ. د. محمد أحمد الحناشي، التراث، الرياض، (1423ه - 2002م)، ص/9-15. 4- المصدر السابق، ص/15. 5- المصدر السابق، ص/15-16. 6- المصدر السابق، ص/16. 7- المصدر السابق، ص/41. 8- المصدر السابق، ص/42-58. 9- المصدر السابق، ص/67-68. 10-المصدر السابق، ص/69. 11-المصدر السابق، ص/70. 12-المصدر السابق، ص/77- 80. 13-المصدر السابق، ص/81 -84. 14- المصدر السابق، ص/107 - 108. 15- المصدر السابق، ص/127 - 146.