حين وقعت يدي على كتاب «الأمير محمد الفيصل يتذكّر»، من تسجيل وإعداد الزميل والصديق د. خالد محمد باطرفي، علمتُ قبل أن أتصفّحه أنني سأخرج بحصيلة كبيرة، وبمعلومات ما كنتُ لأجدها في أي مصدر آخر. ولكنّ شعورًا سادني بأن جلّ المعلومات، والتي سأجنيها ستتركّز على موضوعين رئيسيين أولهما: موضوع تحلية المياه، أو تعذيبها كما يحلو للمختصين تسميتها، وأنا أميل إلى (التحلية) لاشتباه (التعذيب) بالعذاب قبل العذوبة، رغم السلامة اللغوية للفظة وفصاحتها. والموضوع الثاني هو موضوع الاقتصاد الإسلامي، والبنوك الإسلامية تحديدًا. ذلك أن محمد الفيصل رائد في هذين الموضوعين، أو هذين المجالين، إن لم يكن رائدهما على الإطلاق، وله القدح المعلّى فيهما. وكنتُ قرأتُ الكثير من قبل عن مساعي سموه لتوفير المياه العذبة في بلاده، وعن تفكيره في كل الخيارات المتاحة من تلقيح السُّحب، والمطر الصناعي، إلى نقل مياه أنهر قريبة كالسند، والنيل بالبواخر، وبالأنابيب من تركيا والعراق. وأضفتُ إلى معلوماتي القديمة ما ذكره سموّه في هذا الكتاب من التفكير في تفجير يشكل حفرة هائلة في الربع الخالي، يمكن أن تسحب إليها مياه بحر العرب، وقناة مائية تربط شمال الخليج بشمال البحر الأحمر، إلى أن انتهى سموه إلى الحل العملي الذي نعيش في نعمائه منذ مدة طويلة، وهو تحلية مياه البحر. كما كنتُ قرأتُ الكثير عن فكرة نقل جبال الثلج إلى شواطئ المملكة من القطب الجنوبي في السبعينيات الميلادية، بل أذكر أنني أعددتُ بحثًا مصغرًا عن هذا الموضوع، كان من ضمن الموضوعات المطلوبة في مسابقة تهامة الثقافية الكبرى عام 1976م، التي شاركتُ فيها وأنا في العشرين من عمري، وفزتُ بجائزة كبرى من جوائزها، وهي سيارة ماركة رينو كما أذكر. كما قرأتُ الكثير عن جهود سموه لوضع أسس للاقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية، وكنتُ حريصًا على حضور محاضرة ألقاها في قاعة الندوات بجريدة المدينة الغرّاء عن البنوك الإسلامية قبل أكثر من عشر سنوات، وكانت محاضرة ضافية حضرها معظم كُتَّاب الجريدة. وقد تعلّمتُ من الكتاب أن مؤسسات سموه المالية التي تشمل دار المال الإسلامي، وبنك فيصل، والبنك الشامل، وشركة الاستثمار الخليجي وُضعت تحت المجهر بعد أحداث سبتمبر، وحاولت بعض الجهات الغربية البحث عن ثغرات أو أخطاء في هذه المؤسسات، ولكنهم لم يفلحوا بعد أن تعاونت هذه المؤسسات معهم، وسمحت لهم بمراجعة أعمالها وملفاتها، ولم يجدوا فيها شيئًا مخالفًا للمعايير الدولية، بل كانت كل ملفاتها سليمة. أقول وبالله التوفيق: إنني ظننتُ أنّ سموه سيركّز في مذكراته، أو ذكرياته على هذين المجالين فحسب: تحلية المياه، والاقتصاد الإسلامي، ولكن بعد قراءتي للكتاب تبيّن لي أنه سِجلٌّ حافلٌ بالأحداث السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية فائقة الأهمية في المملكة والعالم، وما يميّز هذا السجل أنه يسجل وقائع لا نجدها في كتب التأريخ، ولا في وسائل الإعلام التي ما كانت تنشر إلاّ ما تجيزه السلطات والجهات المختصة. ومن أبرز ما ضمّه هذا الكتاب وقفات مهمة في حياة الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- لا يعلم عنها كثير من الناس، أوردها الابن الثاني للفيصل بكثير من الدقة والشفافية، وممّا يميز هذا الكتاب حقًّا أنه يتكوّن من مجموعة هائلة من الشذرات القصيرة، إذ لا تتجاوز كل شذرة عشرة أسطر في معظم الأحيان، وتحمل كل شذرة عنوانًا مميّزًا، بمعنى أن كل واحدة منها تشمل معلومة فائقة الأهمية، يوردها الكتاب مختصرة للغاية، بحيث تكون لقمة سائغة للقارئ سهلة الهضم والاستيعاب، ثم إن كل مجموعة من الشذرات الموحدة موضوعيًّا توضع في فصل مستقل يحمل عنوانًا معبرًا عن محتواه مثل: «مع الفيصل 1947 من جبال الطائف إلى ناطحات السحاب»، «فيصل بن عبدالعزيز: الوالد والقائد كما عرفته»، «أبلغ الفيصل عبدالناصر بموعد ضربة 67 فردّ: (أنا عارف ومش نايم)»، «اعتبر السادات فيصلاً أخًا كبيرًا وارتبط به روحيًّا»، «التضامن الإسلامي مشروع المؤسس: أصّله سعود ونشّطه فيصل»، «فيصل كان وحيدًا في وجه العواصف. وأمريكا تخلّت عن المملكة»، «جدول فيصل ديون شركات النفط لحل الأزمة النقدية»، «البنوك الإسلامية باقية والعولمة غاربة على يد أصحابها». وأزعم أن كل واحد من هذه العنوانات يصلح أن يكون مشروع بحث سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، وما ورد فيه من شذرات قصيرة يصلح تمامًا ليكون فصولاً وأبوابًا دقيقة للبحث، فقد فتح سمو الأمير محمد الفيصل آفاقًا واسعة نلج من خلالها إلى الكثير من المسكوت عنه في التأريخ السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي للمملكة العربية السعودية والعالم. وأختم بالقول إننا بحاجة إلى عديد الكتب المشابهة لشخصيات سعودية رائدة كسموه في مختلف المجالات؛ ليتذكّر كل منهم أهم المحطات في حياته؛ لنفيد منها في رسم حاضرنا ومستقبلنا، بالإفادة من الماضي بكل تفاصيله ودقائقه.