أيام الزمن الجميل (زمن الروقان) و الأحياء الهادئة، والسيارات الوقورة ، والشارع العربي مكتظ بالذوق العام و الاحترام ، قرأ العظام فنجان الذائقة و عملوا على تملكها بدفع مقدمات موسيقية كانت وحدها سيمفونيات ، فصعدوا بالمستمعين للغمام، ولو وضعت مقدمة (قارئة الفنجان أو أنت عمري) على ميزان التاريخ لرجحت على كل ما اقترفته الأغاني الحديثة ، أبدع الكبار - حد الافتراء - على من يليهم فلم يتركوا لهم إلا النزر اليسير من الفرص لترك أثر يذكر و متحف يزار، و في زمن (الطربق طربق) لم يحفل الجمهور بالحناجر التي لم يكن لديها ما تقدمه مجردا من عروض الأزياء من نوع (طيحني و سامحني) و في بعض الأحيان ( إن شاءالله عنك ما سامحتني) فكانت استجابة الجمهور مرهونة بعرض الجسد لا الكلمة و لا حوار الموسيقى للوجدان ، في الزمن الجميل كان حليم يظهر على المسرح مراقصا اللحن العبقري متغنيا بقصيدة عملاقة ، و اليوم لا يجد المطربون للصعود لمسرح الذائقة إلا أحد ( الأقبحين) إما مصاحبة راقصات من تلميذات مدرسة (الثورة الحديثة ) التي تشمر للنضال عن ساعديها حتى لا يبقى أكمام (من أصله) و تدير (انتفاضة الأوساط) لهز الجيوب وسقوط الأموال، أو غزو الأذان بالإيقاعات الهستيرية التي جعلت المسارح أشبه (بغرز الحشيش)، و حولت الجمهور إلى راقصين في حفلة زار ! أيام الزمن الجميل ظهرت الست بفستان محتشم لا يطرب مع لحنها سوى منديلها الذي يتمايل يمنة ويسرة فلا يفقد وقاره ، و اليوم تظهر (زعيطة) مقسمة أن تغيظ (معيطة) و ترتدي فستانا أقصر من فستانها و تتغنى بكلمات أرذل من كلماتها ، و يظهر (زعيط) ووجهه مغموس بمستحضرات النساء ، فخور بحمرة شفاهه و تسريحة شعره البهية، هبط الفن، وقطعت (الأيام المدعوقة) - على رأي الشيخ إمام – حبال الباراشوت فسقطت الذوائق على أم رأسها و صارت بين اثنين : الأغاني المتردية و الأزياء النطيحة كل هذا يتآمر على الجيوب في استوديوهات افتراضية و مؤثرات إلكترونية بإمكانها تخييل خوار البقر على أنه زقزقة العصافير ! و في رحلة الذائقة من الزمن الجميل لزمن (الطربق) و الأغنية العارية، ( تمرمطت) الذائقة كثيرا، صعودا وهبوطا و مطبات قاسية و جفاف مرير، وطوال الوقت كان محمد عبده الباقي من الزمن الجميل الصامد في وجه الإسفاف، الذي بقي حتى لحظة وعكته الأخيرة محترما للذائقة مقدرا لتاريخه الزاخر و فنه الفاخر، لم ينجرف وراء الإغراءات لمواكبة العصر و متطلباته المفتراة ، معتقدا بأن أهم متطلبات العصر هي الجمال و(الروقان) . ألف لا بأس للفن العربي و ألف لا بأس للعميد محمد عبده ، آخر العظام المحترمين . [email protected]