سعيت خلال زيارة خاصة قمت بها للقاهرة مؤخرًا إلى فهم ما يرغب الثائرون المصريون في أن تكون عليه مصر الغد، ووجدت أن لكل فرد أمنياته الخاصة في المستقبل المأمول للبلاد، ولكن لا يوجد برنامج واضح لكيفية الوصول إلى تحقيق الأماني، وهذا أمر يتوافق وطبيعة الثورات، والتي نأمل أن لا تتحقق لها (أي الثورة المصرية) مقولة: الثورة تأكل أبنائها، ومن الملاحظ أن أعمال المجلس العسكري، الذي يحكم مصر تتميز بالكتمان، وبات العديد من جماعات الناشطين التي تشكلت في كنف ميدان التحرير وسط القاهرة لا تملك إلا القليل جدًا من التأثير على عملية صنع القرار فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية. وسعى المجلس العسكري ورئيس مجلس الوزراء إلى فتح قناة لتجميع وتنظيم الأفكار والمقترحات حول مستقبل مصر، واختاروا شخصية بارزه مقبولة من جميع الأطراف هو الدكتور عبدالعزيز حجازي، ليتولى هذه المهمة، الذي بدوره دعا الأحزاب السياسية وجماعة الإخوان المسلمين وحركات شباب الثورة والنقابات العمالية ومختلف مؤسسات المجتمع المدني لتقديم أفكارها عبر ممثلين منهم يختارونهم ليقوموا بالتحاور مع نظرائهم والوصول إلى تصور لمستقبل بلادهم، وانطلق العاملون تحت إشرافه إلى المحافظات والمدن في البلاد لتنفيذ مهمتهم، ولا شك أن الدكتور حجازي كفاءة عالية، ويحظى باحترام الكثيرين، وعمل وزيرًا للاقتصاد في عهد عبدالناصر، ورئيسًا للوزراء في عهد السادات، ولم يقبل بالعمل السياسي خلال عهد مبارك، إلا أنه لوحظ أن الدكتور يحيى الجمل، نائب رئيس الوزراء الطموح حاول أن يتولى مهمة الحوار الوطني قبل اختيار الدكتور حجازي، إلا أن ما يثار من ملاحظات حول الدكتور الجمل دفعت بالمجلس العسكري إلى إبعاده عن هذه المهمة، ولم يمنعه هذا القرار من إعادة تكوين هيئة مشابهة مؤخرًا سماها «هيئة الحوار القومي»، وقال الدكتور حجازي في مداخلة له على قناة (المحور) عندما سئل عما يعمله الدكتور الجمل، بأنه إذا كان ما يعمله هو نفس ما يقوم به الدكتور حجازي فإن هذا غير مقبول وليس في صالح البلاد، وأن المجلس الأعلى أكد له أن الدكتور الجمل يقوم بنشاط مختلف. وفهمت من الدكتور عبدالعزيز حجازي، وهو صديق قديم، أن النتائج التي سيخرج بها الحوار الوطني من المتوقع أن تقدم لمجلس الشعب الذي سيجري انتخابه في شهر سبتمبر القادم لمساعدة المشرعين، الذين ستكون من مهماتهم إعادة صياغة الدستور، وأعتقد شخصيًا أن ما سيقدم للمجلس القادم لن يكون ملزمًا، ما لم يتخذ المجلس العسكري موقفًا ما من نتائج مقترحات الحوار الوطني، بل إنه من المرجح أن تكون جماعة الإخوان المسلمين هي المجموعة المؤثرة في قرارات مجلس الشعب القادم، حيث إن الجماعة هي أكثر الحركات تنظيمًا ونشاطًا بين كل الأحزاب والجماعات السياسية والاجتماعية في مصر، فهي حركة أسسها في مصر حسن البنا عام 1928، واكتسبت منذ ذلك الوقت خبرة واسعة في التعامل مع الجماهير وتحريكها والتأثير عليها أكان ذلك عندما كانت تعمل في العلن أو في السر، وتسعى الجماعة إلى تقديم نفسها كجماعة معتدلة مقارنة بالجماعات المتطرفة التي تنطلق هناك تحت شعار السلفية، وتقوم بأعمال تخريبية في البلاد في الوقت الحاضر، وأعلنت بنهاية شهر أبريل الماضي عن تكوين حزب يمثلها سياسيًا، وأطلقت عليه اسمًا مشابهًا لاسم الحزب الحاكم في تركيا إذ سمته «حزب الحرية والعدالة»، واختار مجلس الشورى للجماعة القيادي في الإخوان محمد مرسي لرئاسته، وأعلنت اكتفائها بخوض المنافسة في الانتخابات البرلمانية (شهر سبتمبر المقبل) على نسبة تتراوح بين أربعين وخمسين بالمائة من مقاعد مجلس الشعب، وهي نسبة من المتوقع أن تحصل عليها حيث لا يوجد في الوقت الحاضر أي تنظيم آخر قادر على منافستها، وستتمكن بذلك من السيطرة على السياسة المصرية حتى وإن كانت لن ترشح ممثلًا عنها لرئاسة الجمهورية، وهو منصب سيكون بصلاحيات محدودة. الشارع المصري لا يزال يعيش نشوة الانتصار على النظام السابق وإسقاطه، وأخذ الفرد المصري يتحدث لا عن مشاركته في حكم نفسه بشكل مباشر عبر الانتخابات الموعودة والحراك السياسي القائم فحسب، وإنما عن الرخاء الاقتصادي الذي يتوقع جازمًا بأنه سيتحقق له على يد الحكومة المنتخبة القادمة، ويتحدث المواطنون الذين يعيشون في العشوائيات بالقاهرة عن المساكن والأعمال والخدمات التي ستتوفر لهم في ظل النظام الجديد، وبرزت إلى السطح جماعات انتهازية بمصالح متشعبة، فهناك من يسعى للانتقام من كل فرد يرغب الانتقام منه وتحولت الصحف المصرية إلى وسائل ضغط على النظام الانتقالي الحالي لتحقيق أجندات لأفراد، وفتح النائب العام بابًا واسعًا لكل من أراد اتهام أي شخص بتهمة معيبة أو غير ذلك، ومن يجري اتهامه تتصدر أخباره صفحات الصحف، ومتى جرت تبرئته لا تهتم الصحف كثيرًا بتغطية خبر التبرئة غير المثير، وانتشرت الإضرابات في أكثر من مرفق وقطعت الشوارع ومسارات السكة الحديد في أكثر من مكان من قبل جماعات تسعى لرفع صوتها، وبدا الأمر وكأن الشارع هو الذي يتحكم في قرارات الحكومة والمجلس العسكري، وعلق أحد الظرفاء على ذلك بالقول إن مصر تخلصت من فرعون واحد، ولكنها أصبحت الآن تعاني من ثمانين مليون فرعونًا (سكان مصر). مصر ليست في خطر، ولكنها تمر بمرحلة مخاض من الصعب التنبؤ بنتيجته في الوقت الحاضر، وربما تصبح الصورة أكثر وضوحًا بعد الانتخابات القادمة حين يتحقق للثورة المصرية قيام أول حكومة يختارها الشعب منذ سنين طويلة، وستكون تلك الخطوة الأولى في طريق صعب نحو الاستقرار والرخاء ربما يطول وقد يقصر حسب مهارة أو عجز القيادات الشعبية، التي ستظهر عبر صناديق الاقتراع، وعبر مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الجديدة. ص.ب 2048 جدة 21451 [email protected]