يمثل الوفاء للأدباء والمبدعين الراحلين إحدى العلامات المضيئة في الحياة الإنسانية، فعبر هذا الفعل يضيء الحاضر بذكرى مبدعين، كتبوا سطور الإبداع في كراسة الأيام ومضوا، ليكون الوفاء لهم باستعادة ذكراهم بقراءة منجزهم الإبداعي، والتعريف به لتكون الصلة قائمة بين الأجيال، فعبر الدراسات التي تقدم والشهادات التي تنشر، يقف الجميع على لمحات ومواقف ربما طواها النسيان، أو ذهبت مع الأيام في دورتها المتعاقبة، لتجيء مثل هذه الاحتفاليات فتبعث كل هذه الأشياء وتضعها على السطح، في مشهد من الوفاء والنبل.. وقد شهدت مدينة جدة مؤخرًا فعاليتين احتفاليتين مختلفتين، ففي النادي الأدبي الثقافي بجدة كانت الذكرى الثلاثين لرحيل الأديب والإعلامي الراحل مطلق مخلد الذيابي حاضرة بكل ألقها، بينما كانت مئوية الأديب الرائد حمزة شحاتة عنوان الوفاء في منتدى الاثنينية، وكان الوفاء هو القاسم المشترك بين الأمسيتين.. ففي منتدى الاثنينية بجدة وبحضور مجموعة كبيرة من الشخصيات والمثقفين والإعلاميين تم إحياء مئوية الأديب الشاعر حمزة شحاتة - رحمه الله-، وقد تم في الحفل تقديم الأعمال الكاملة للأديب الراحل والبالغة ثلاثة مجلدات، أولها رصد شعره، وفيما خصص المجلدان الآخران لنثره المتفاوت بين النقد والكتابات الأخرى المتفرقة. في بداية الاحتفائية تحدث صاحب الاثنينية عبدالمقصود خوجة عن شحاتة قائلًا: نثر كنانة مواهبه باكرًا، ونهل من علوم عصره، وما كان متاحًا لنظرائه، في النصف الأول من القرن العشرين، وربما كان أقل حظًا من غيره في الإلمام باللغات الأجنبية.. إلا أنه استطاع ببصيرة العارف أن يهضم ما قرأ، ويتمثّله مليًا، ثم يفرزه شعرًا محلقًا في عليائه، ونثرًا بارعًا في تصوراته.. إنه الشاعر والأديب الكبير حمزة شحاتة رحمه الله.. لقد كان شاعرنا الكبير، وأديبنا الفذ الذي رضع الفلسفة من أمهات الكتب.. وطنيًا حتى النخاع، أحب وطنه بكل مكوناته وألوان طيفه، ومنحه من دفق العاطفة ما اختلط بذرات كيانه في كل مراحل حياته.. ومن ذلك الحب الطاغي استطاع أن يقف أمام فطاحل الأدباء ليلقي محاضرته الشهيرة في مكةالمكرمة بعنوان “الرجولة عماد الخلق الفاضل”، فضج بها المجتمع واحتفى بمبدعها الذي كان في شرخ الشباب، لكن ثقته بنفسه دفعت به إلى منصة كان يهابها كبار الأدباء والشعراء، ذلك أن للكلمة مسؤوليتها الباقية أبد الدهر ما إن تخرج من صدر قائلها إلى أثير العالم الواسع، وهكذا بقيت تلك المحاضرة الفذة تأتلق إلى أن تحولت إلى كتاب يرسل شعاع الكلمة جيلًا بعد جيل. وأضاف خوجة: جاء شحاتة من خارج الزمن، ومن حسن الطالع أن احتضنته مكةالمكرمة التي كانت حفية بالعلماء والأدباء والشعراء من كل أصقاع العالم الإسلامي.. فكان النبتة الصالحة في الأرض الخصبة المعطاء.. وعندما ضاقت عليه قنوات التواصل، آثر الهجرة إلى أرض الكنانة، فوجد ضالته في دوائر معارفها الكبيرة، ووسائل اتصالاتها المتعددة، وما تعج به من منتديات، ومسارح، وصحف، وإذاعات، وغيرها من فنون وآداب.. فانطلق خفيفًا يحث الخطى في مضمار العطاء الرحب، حاملًا حب الوطن في عينيه حلًا وترحالًا.. إلى أن وافته المنية بالقاهرة عام 1392ه/1972م، ودفن في مكةالمكرمة.. رحمه الله رحمة الأبرار. بعد ذلك تحدث مجموعة من المثقفين عن الراحل شحاتة، حيث تحدثت السيدة زلفى حمزة شحاتة في محور: “الدور الأبوي والرسالة التربوية لوالدها”. كما تحدث السفير محمد صالح باخطمة في محور: “أيام معه”. وبعده الدكتور عبدالله مناع في محور: “الأزمة بين حمزة شحاتة ومحمد سرور الصبان”، وتناول عبدالله فراج الشريف “أثر الحكمة والفلسفة في أدب حمزة شحاتة”، كما قدم الدكتور عاصم حمدان ورقة تناولت سيرة الراحل شحاتة ومحطات في مسيرته من خلال تلخيص لكتابه “قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري”، الذي سبق وأن ألفه عن الراحل في فترة سابقة، حيث جاء في مطلع ورقته قوله: لن يكون في مقدور أي باحث يتناول سيرة الرائد والشاعر الكبير الأستاذ حمزة شحاتة - رحمه الله - أن يفصل بين منتجه الإبداعي وأسلوب حياته التي عاشها، فثمة خلال كثيرة في حياته تبرز بصورة جلية في سياق ما أنتجه من أدب توزّع بين الشعر والنقد والكتابات الأخرى المتفرقة.. غير أننا نلحظ بوضوح وجلاء ولعه الكبير بالشعر، بوصفه الجنس الأدبي الذي كان محل الحفاوة والاهتمام في الفترة التي عاشها، وقد أشرنا إلى ذلك باستفاضة وإيضاح في كتابنا الموسوم «قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري»، وتناولنا فيه بالبحث والتمحيص المقدمة الرائعة التي كتبها مقدمًا لكتاب الأستاذ عبدالسلام بن طاهر الساسي «شعراء الحجاز في العصر الحديث»، ففي ثنايا تلك المقدمة تبرز رؤى شحاتة وموقفه من الشعر، فقد ربط في تلك المقدمة بين الشعر والفنون الإبداعية الأخرى من نثر ونحت وخطابة، بعبارات موجزة ذات دلالات عميقة ومؤثرة، وهو يعقد جملة من المقارنات بين الشعر وفنون القول العديدة، منحازًا بشكل كبير إلى الشعر على الفنون الأخرى، مرتئيًا أن الشعر هو الجنس الأدبي الوحيد القادر على التعبير عن خلجات النفوس أصدق تعبيرًا بما يقدمه من صور لماحة، بما يشي بأنه كان ميّالًا لمدرسة الطبع في الشعر العربي.. أدبي جدة يحيي الذكرى الثلاثين لرحيل الذيابي وفي النادي الثقافي الأدبي بجدة كانت الذكرى الثلاثين لرحيل الأديب الإعلامي مطلق مخلد الذيابي حاضرة، في أمسية أمها العديد من المثقفين والأدباء، وشهدت تقديم عرض مصور لمسيرة الأديب الراحل الأدبية والإعلامية والفنية، وقد استهل الأمسية رئيس مجلس إدارة أدبي جدة الدكتور عبدالمحسن القحطاني الذي اشار إلى أن الأديب الراحل مطلق مخلد الذيابي وبرغم أنه لم يسبق له أن رُشح لمنصب رئاسة النادي، إلاّ أنه كان يحمل الرقم الأول، متصدرًا الجميع، كونه كان عضو مجلس إدارة فاعلًا، واصفًا إياه بالإنسان الذي خُلق لأن يستمع أكثر مما يقول، فإذا قال أطرب الجميع وتمنوا ألا يسكت أبدًا. وحث القحطاني الحضور على ضرورة قراءة ديوان الشاعر مطلق الذيابي (أطياف العذارى) والذي أعاد النادي طباعته للمرة الثانية والذي وصفه بدهن العود الذي كلما طال عمره فهو يتزكى أكثر مما هو زاكٍ. كما تحدث ابن الراحل المطلق الإعلامي سعود الذيابي قائلًا: صدقوني لو كان يعيش بيننا وشهد هذا الكم الكبير من الحب الفياض من محبيه ومعجبيه لشعر بسعادة غامرة لأنه كان يتمتع بحس شفاف يثمّن المشاعر الإنسانية الرقيقة من ذوي الحس النبيل المرهف الذين يقدّرون الإبداع الأدبي والفني ولعل شهادتي مجروحة في حق والدي ولكن شهادتكم من المؤكد منزّهة عن الشك وبالرغم من مرور ثلاثين عامًا تقريبًا على رحيله عن دنيانا إلا أنه في ليلة التكريم هذه باستذكار جوانب شتى من شخصيته كمبدع متعدد المواهب تجيش في النفس مشاعر ممزوجة من الفرح والحزن وبهذا نشعر أنه ما زال يعيش في ذاكرة وقلوب محبيه. الجندي الشجاع أما ضيف الأمسية الشاعر الشريف منصور بن سلطان، فقال: لقد عانقت هذا الصرح الشامخ من بداياته وواكبته في مسيرته الأدبية والثقافية وأجد من الواجب المشاركة الليلة؛ إذ أشعر أنه تكريم لي بذاتي إنه رجال في رجل ذلك الجندي الشجاع والإعلامي المفوّه والأديب البارع والفنان المتألق والشاعر الملهم وقبل هذا وذاك هو الإنسان ذو الخلق الرفيع ولقد سخرني الله أن اهتم بتراث هذا الرجل فأعانني الله على إصدار مؤلف يقارب ال 300 صفحة يحوي أعماله الإذاعية من برامج ومقدمات، إضافة إلى أعماله الفنية الرائعة من مقطوعات غنائية وموسيقية وألحان لكثير من كبار الفنانين العرب وما قيل في رثائه من شعر ونثر وكان مما استوقفني مقولة عكست موقفه من الفن حيث قال: “يا شريف أنا لا أتاجر بفني إنما أهواه”. وغاص الدكتور يوسف العارف غاص في أعماق ديوان الشاعر الراحل (أطياف العذارى)، بورقة جاء فيها قوله: لقد توصلت إلى عنونة ورقتي ب(الحب الشعري عند مطلق مخلد الذيابي) وتهدف إلى تناول الذيابي من خلال ثلاثة محاور رئيسية هي الإعلامية والتربوية والثقافية.. وكم كنت حريصًا على متابعة بعض برامجه ومنها “من البادية” وبرنامج “ثمرات الأوراق” وبرنامج “في رحاب الإيمان” وكنت أتمنى أن يقوم النادي بطباعة كتاب “ثمرات الأرواح” وكذلك “من البادية” والذي كان برنامجًا ذا شعبية ساحقة جدًا. ثم قدم الشاعر أحمد حلواني قصيدة، جاء فيها: فأنتَ في الشعر صرحٌ شامخٌ ولنا نحن الشبابَ ومن هم بعدَنا عَلمُ لو لم يكن فيك فن يستريح له قلبٌ وتسمو به الأخلاقُ والقيمُ ما لقبّوك (سمير الواد) في زمن فيه العمالقة الأفذاذ والقممُ غنيتَ للخيل والبيداء أغنية بها أشاد بك الأعرابُ والعجمُ مداخلات هاتفية وقد شهدت الأمسية مداخلتين إعلاميتين، الأولى هاتفية للإعلامي الدكتور حسين نجار، قال فيها: كم كان لي الشرف أن أكون بينكم في هذه الأمسية الجميلة التي تقدمون فيها وتحتفون فيها برمز من رموز الإعلام السعودي الإذاعي على وجه الخصوص فالأستاذ الذيابي لم يكن مذيعًا فقط ولكن كان كوكبة من المثقفين والأدباء والشعراء وأنا سعدت بأن تتلمذت على يده بصورة مباشرة وغير مباشرة. المداخلة الهاتفية الثانية من الإعلامي أحمد حريري، قال فيها: الراحل الذيابي صوت عذب افتقده المايكروفون وللأسف الشديد أن يُكرم الأديب الذيابي بعد وفاته وهذا عيب على الإعلام أن يكرم الإعلامي بعد وفاته لماذا لا يكرم الإعلامي في حياته كلاعب كرة القدم والذي يكرم في حياته ولكننا نحن الإعلاميين أصحاب الكلمة لا نكرم إلا بعد وفاتنا.. عمومًا نشكركم على اللفتة الكريمة لأستاذنا ومعلمنا وأديبنا وشاعرنا الذيابي وإذا افتقدنا صوت الأديب مطلق فنحمد الله أن أنجب لنا صوتًا هو صوت الابن العذب الذي يمثّل ذلك الأسد وهو سعود.. رحم الله الأستاذ مطلق فهو معلمي بالدرجة الأولى وعاصرته كمذيع وكأديب وكفنان ولقد كتب كثيرا ولحّن كثيرا من الأغنيات. بجانب العديد من المداخلات الأخرى، حيث جاء وصف الإعلامي الدكتور محمد الصبيحي للمكرم الراحل مطلق الذيابي بأنه متعدد المواهب.. واستعرض بعض المواقف التي جمعته بالأديب الراحل. فيما جاءت كلمة الإعلامي حسين العسكري مكتوبة وألقاها نيابة عنه مسؤول العلاقات العامة بالنادي نبيل زارع وقال فيها: تربط والدي صداقة قوية مع والد الزميل مطلق العم مخلد وانعكس ذلك على علاقاتي بالزميل الكريم يرحمه الله خلال عملي في إذاعة جدة في عهد المديرية العامة للإذاعة والنشر قبل أن تصبح وزارة حيث كنت محررًا في إدارة الأخبار ويأتي الزميل مطلق لقراءة النشرة.. كان هامة عالية في فكره ومخزونه الثقافي.. أجاد حكايات البادية وكان راوية لها. فيما لفت الملحن طلال باغر إلى ضرورة الاهتمام بالمبدعين أمثال الفنان الراحل الذيابي حتى وإن جاء تكريمهم بعد وفاتهم فهذا لا يقلل من حجم التكريم لهم، مشيرًا إلى أن الإبداع لا يُنسى. وأشار بعض الحضور إلى ضرورة تاريخ حياة الذيابي في الأردن قبل مجيئه للسعودية. فيما لفت الشريف منصور بن سلطان إلى أن مطلق الذيابي حتى وإن لم يكمل المرحلة الابتدائية فهو تعلم ما يوازي التعليم الجامعي، إذ تتلمذ في الأردن على يد الشريف عبدالله بن الحسين قبل أن يعود إلى السعودية محمّلًا بمخزون ثقافي كبير لا يحمله سوى المبدعين أمثال الذيابي.