الأسباب المباشرة وراء هوجات أكثر من شارع عربى حقيقية (غير متوهمة ولا مدعاة)، تتصل بالاقتصاد والإدارة المحلية، إلا أنها غير كافية وحدها للتفسير. السياسة من ظواهر الاجتماع البشرى، لذلك الملامح الدرامية جزء لصيق بها، ولعلها أوضح ما تكون فيها. العمل الدرامي الجيد (على نقيض الساذج والمبتذل) يتجنب -تجنب الحرام- الأسئلة السهلة والإجابات السهلة، ويدعمها للإعلام الدعائي. ذروة الدراما عندما ترتكب أخطاءً فادحة (ليس عن عمد) وأنت تسلك الطريق الصحيح، المبنى على اختيارات صحيحة، فتضطر إلى تلك الأخطاء لأن الإطار الثقافى والاجتماعي لا يسمح لك (أو لا يسهل عليك) غير هذا.. مقالنا هنا عن المستفزات الاقتصادية للهوجات في الشارعين السوري والمصري. البيئة الدولية الآن لا تقدم نماذج متعددة للتنمية الاقتصادية تتيح الاختيار بينها، لم يعد متاحًا سوى طريق وحيد، الاقتصاد المفتوح الذي يعمل في سوق عالمي، أجل لا زال من حقك نظريًا أن تسلك غيره، سوى أنك إن فعلت فشلك مؤكد، لذلك كان هو الخيار الذي اختطته جميع الاقتصاديات النامية المعاصرة. مصر تبنت ذلك منذ الثمانينات، وسوريا منذ مجيء الرئيس بشار إلى السلطة عام 2000م. الخصخصة أهم ملامح النموذج، والاقتصاد المصري يكاد يكون قد فرغ منها، أما في سوريا فلا زال هناك قطاع عام مهم. بالنظر إلى النظام الاشتراكي الذي سادهما قبل التغيير لم يكن هناك طبقة رجال أعمال لتستقبل نقل مؤسسات الإنتاج إليها، واقع الحال أن عمليات النقل هي التي صنعت هذه الطبقة، وبسرعة سحرية، فتلك طبيعة عمليات الخصخصة، حدث نفس الشيء (وإن بتفاصيل مختلفة) في روسيا وشرق أوروبا والربع الساحلي من الصين، بما صحبه من صور محاباة وضعف لضوابط العدالة وفساد، من المحال تجنبها، لأن الأطر القانونية المنظمة للاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة غير متوافرة، وكلما اشتدت غيبتها (وهى على أشدها فى العالم الثالث) ازدادت تلك الصور فداحة.. لاحظ عناصر الدراما: الخيار صحيح، بل لو اخترت سواه تكون قد ارتكبت خطأ جسيمًا، الانحرافات التي اقترفت عند التطبيق من المستحيل تقريبًا تجنبها، قلت تقريبًا لأن تجنبها فوق طاقة البشر العاديين وضغط الواقع. لم يوهم أحد نفسه بأن التغيير سيتم براحة، آلامه متيقن منها منذ البدء وضرورية، جرى رصدها في جانب الأضرار المحسوبة التى لا بد منها في سبيل أوضاع أفضل في المستقبل. أدت الإصلاحات إلى معدلات نمو لا بأس بها، حقق الاقتصاد السوري في السنوات الأخيرة معدل 5% سنويًا، والاقتصاد المصري أكثر من ذلك، إلا أنها زيادات لم تنتفع بها الفئات الأكثر فقرا والأشد حاجة إليها، بل تضررت، بسبب رفع الدعم عن السلع الأساسية، وفقدان نسبة من العمال لوظائفهم، مقابل فئة أخرى قليلة العدد استفادت من تملك القطاع العام وسياسات الانفتاح إلى درجة لا تصدق وبلا مجهود، فظهر التفاوت المستفز في مستويات المعيشة، لأنه بلا أسس تسوغه إلا المحاباة والفساد الإداري.. سأزيدك هنا عنصرًا دراميًا إضافيًا: تلك الفجوة وهذا التفاوت كان لا بد منه، ولا يمكن من الوجهة الاقتصادية أن تأتي الإصلاحات ثمارها بدونه، فهذه الطبقة الجديدة هي التي ستمول الاستثمارات وعمليات الإنتاج فى مقبل الأيام. علك عرفت أن تحذيري لك من الإجابات السهلة والشعارات والكلام المرسل في محله. الواقع أوسع من أن يصوره مقال قصير، لا زال هناك كثير مما يُقال يخص الجانب الاقتصادي ولا متسع لقوله، فيما يخصه مواجع الناس حقيقية، ثلث عدد السكان في البلدين يعيشون عند خط الفقر، وأزمات البطالة والغلاء متفاقمة. من عدم الإنصاف تحميل النظم وحدها مسؤولية أوجاعهم، هي غير بريئة لكنها ليست المسؤول الوحيد، للناس أيضًا نصيبهم (ولعله غير قليل) من المسؤولية. أما المذنب الأكبر فمستتر، إنه البيئة أو الظروف المحيطة بالتجربة الإنسانية محل البحث، التي تشكلها عوامل ثقافية واجتماعية. قلت لك من قبل أن أقوى الأسباب وراء الأحداث لا شعورية. [email protected]