إن حضور مفردة “فتح” ومشتقاتها في المحسوسات “كفتح الباب”، ومن ثم استخدامها في المعاني “كفتح البلاد وانفتاح الأفكار” ضرب من ضروب يسر اللغة والبلاغة الموصلة للمعنى بأقصر طريقة، يغنينا في مثل هذه العجالة عن بحث مدلولات هذا المصطلح ومقتضياته، فالعامة يدركون أثر الانفتاح حسًا، فسهل عليهم بعد ذلك إدراك أثره في المعاني، وأمام الأمر الواقع - حيث وسائل الاتصال قد أزالت كثيرًا من الحواجز بين الأفكار المختلفة - صرنا في غنية عن بحث مسألة: هل ننفتح أم لا؟ وكذلك لا يخدم موقفنا بكاء ماضٍ ولا هجاء واقع. فتحددت الجبهة المحتاجة لنفير أهل الرأي من قضية الانفتاح: في بحث طرائق التعاطي وأساليب الترشيد لتفعيل إيجابياته وتعطيل سلبياته. وأظنه اتضح للقارئ تفريقي بين إتاحة الأفكار والاطلاع عليها الذي هو بمجرده الانفتاح، وبين ما وراء ذلك من تأثر وتأثير يمثل أثره ونتيجته. ولا بد لنا في سبيل البحث عن الطريقة المثلى للإفادة من الانفتاح الفكري واتقاء ضرره من تصنيف مجالات الأفكار المنفتح عليها إلى مجالين يعبران عن ثنائية الدين والدنيا، من ثم يكون لكل مجال حديثه الخاص به. ذلك أن الله قال لنا في شأن الدين: “فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم” وقال في شأن الدنيا: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” فالدين كفيناه والدنيا نعدها. مجال الدين: بقدر يقين المسلم بدينه يكون إعراضه عن الآراء والأفكار المخالفة التي محلها “التشريع” أو تكوين التصور عن القضايا الأساسية “الإخبار” فالمسلم لا يقبل التفاعل مع فكر أنى يكون على حساب إسلامه، بالتالي تظل الآراء المخالفة في هذا المجال مركونة في السطور لا تأثير لها إلا إمداد المتدبر في آيات الله الشرعية بمزيد يقين حين يجول في هذه الضلالات، وكذلك إمداد الداعية بمادة تؤهله لتفنيد الباطل وكشف زيفه لمن يدين به، هكذا يكون التفاعل الإيجابي مع الفكر في هذا المجال. وتحقيق هذا القدر من التفاعل متوقف على جودة الخطاب الديني الذي يصل المجتمع بدينه ويجذر احترام الدين والقناعة به في قلوب الناس، وهو خطاب يقوم عليه أهل العلم والشرعيون بمختلف تخصصاتهم، ويقتضي الموقف الانفتاحي منه تطورا هائلا، يحوجه إلى مزيد برهنة في عرض قضاياه، وتركيز على بناء التحصين الفكري، ليكون خطابًا مؤهلًا لمواجهة التحديات، ويصدق عليه أخذه الكتاب بقوة. وإذا قلنا إن الانفتاح يقتضي جهدًا أقوى في التمسك بالإسلام والدعوة إليه فإن هذا متسق مع الحكمة منه التي نجدها في التصور الإسلامي حيث الآيات والأحاديث الكثيرة التي تخبر عن هذا اللون من تدافع الأفكار وأنه من أمر الله الكوني، ويؤدي لمحاب كثيرة للرب، أبرزها بذل الجهد واستفراغ الوسع من المؤمنين تمسكًا بالحق ودعوة إليه، فالأولى عبادة الثبات في زمن الغربة والهرج وهي عبادة مضاعفة، والثانية عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وهي من أشرف مراتب العبودية، وكم نحتاج إلى إشاعة مفهوم الثبات على أنه غاية بحد ذاته وإنجاز ونصر لأهل الحق بديلا عن تهميشه مقابل غاية هداية الناس “وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون”. وهذا تصور لا يدانيه من يقدم الانفتاح بعيدًا عن مفهوم التدافع على أنه فرصة لمزج الأفكار وصناعة المخلطات الفكرية، وتجزئة الحق، والبحث عن المشتركات والتصالح الفكري. مجال الدنيا: ما يتعلق بها من منجزات ومبتكرات فإنها رحم بين بني آدم، والتفاعل معها والتأثر بالمفيد النافع منها أمر إيجابي، وإن كان ثمة عقبات كثيرة أمام الاستفادة من تقدم الآخر المادي فإن من أبرزها هو ذلك التلازم الذي ينشأ في أذهان بعضهم بين التأثر المادي بالآخر والتأثر الفكري، وهو تلازم مختلق يكذبه الواقع، ولا يرتضيه أهل الأصالة والحذق، ومن أضراره أنه يحصر المجتمع بين خيارين: إما رفض المنتجات المادية حرصًا على الفكر والهوية، وإما التنازل عن الفكر والهوية سعيا وراء المنتج المادي، وكلاهما خياران مجحفان لا يليقان بمجتمع يعتز بأصالته ويفاخر بقدرته على مواكبة عصره. وإن كان التلازم بخياره الأول “رفض المنتج المادي حرصًا على الفكر” متلاشيًا نظرًا لتعارضه مع مصالح الناس الدنيوية، فإن التلازم بخياره الثاني رائج عند كثيرين إما بلسان مقالهم طعنًا في فكر الأمة وهويتها وإعجابًا بالأفكار الجاهلية، أو بلسان حالهم بسلوكهم مسلك التأويل للإسلام، فاللسان الأول تمثله مذاهب التغريب الصريح كالليبرالية والعلمانية، واللسان الثاني تمثله مذاهب التقارب مع الغرب كالعصرانية والتنوير. وإنك تجد معركة الأخيرين يخوضونها للتحايل على أحكام لا يمثل التحايل عليها تقدمًا ماديًا، أو يبررون أخرى لا يستجلب تبريرها منجزًا حضاريًا، كمن يتحايل على الحدود أو يبرر الاختلاط المحرم، وصنيعهم هذا الناشئ من ذهنية التلازم الآنف يسهم في إعاقة التقدم الحضاري وإحلال التوجس والحذر من الحضارة محل الأخذ بها.