هناك بعيدًا في أعماق الذاكرة، تسكن مجموعة من الذكريات التي تبقى كامنة تغط في سباتها، وفجأة تستيقظ مثل مارد انتفش لتوٍّ، فقط لمجرد شعوره بشيء ما اخترق صمت هجوعه الطويل، وفي الأماكن القديمة، حيث حياة الطفولة ومراتع الصبا، هناك تقبع حالات غريبة لمشاعر خاصة تختفي خلف جدار من الزمن، أو شجرة من العمر، أو سد من سدود العادات، أو زاوية في شارع ضيّق من شوارع المرحلة. في الحارات القديمة حيث كانت البيوت متقاربة وتتزاحم إلى الحد الذي لا يفصل بينها سوى ممر ضيّق، أو زقاق، أو شارع متعرّج يلف بعضها، ويلتف حوله بعض آخر، كان الجيران يعيشون معًا كأسرة واحدة، في تلك الأمكنة استقرت ذكريات الأمكنة القديمة كامنة في الأعماق ليست فيها فقط، ولكنها تفوح من داخلنا حين نكون في حضرتها المهيبة تاريخيًّا، إذ يمور الداخل بمشاعر الألفة التي انتفضت، ووقفت في لحظة مخاتلة من التاريخ. في القرى والهجر البعيدة، تحتفظ بيوت الحجر، وبيوت الطين، وأحواش الماشية، والمزارع، والآبار بعبق الماضي، وروائح اللحظات الشاردة، وفي تلك الأمكنة بقايا مشاعر ومقاطع من حياة أهل تلك الديار، وفي كل عودة للأماكن القديمة ينطلق لسان حال المكان عبر روائح الزوايا والمنعطفات وبيوت الأشياء، وفتافيت البقايا لتدور الأرض دورتها ويصمت ضجيج الحاضر. إن حياة الأجيال الجديدة مهددة اليوم بالذوبان في ذاكرة الآلة، والحياة الرقمية، حيث يتحول المرء إلى ترس في عجلة الحياة، بحيث يفقد البُعد الروحي لعلاقته بالمكان والآخرين، ولهذا فإن اليوم يسكنون الشقق على العمارات الكبيرة، والشوارع الفسيحة التي تتحكم في نوعية علاقاتهم بمن حولهم، وبهذه الأمكنة التي ينتقلون منها إلى غيرها من البيوت الأسمنتية المعلبة، حيث تتفتت الذاكرة، وتضيع الذكريات، وتفقد الأمكنة القديمة روائحها مثلما تفقد الذاكرة روائح الأمكنة القديمة، حيث يتعذّر العودة إليها في أغلب الأحيان؛ ولهذا فإن المدن الجديدة تلتهم تاريخ الأمكنة القديمة، وتقدم أجيالاً تسرق منهم روح المكان القديم ورائحته.