يقالُ: أكثر الحيوان صُنعًا النَّحلُ والعنكبوت، لكن النحل صانع نافع، وليس فيما يصنعه العنكبوت نفعٌ. والمراد بالمنفعة -هنا- ما ينفع الناس لا مطلق النفع؛ لأنّه أول المنتفعين به . وتتبيّن دقّة صنع هذا الحيوان في أنّه يبني ويصنع أوهنَ البيوت، وصنعته لا يقدر عليها غيره، ولو قيل: لأحذق الناس صناعة، وأكثرهم مهارة: اصنع مثله لما استطاع. فسبحان مَن أعطى كلَّ شيءٍ ما يناسبه وهداه. ومقياسنا -نحن الناس- في عظمة الصنع ودقته مرتبط بقانون المنفعة، فما كان نافعًا لنا، أو كان أكثر نفعًا فهو الأعجب والأعظم. فههنا نفعٌ غير قاصر، وآخر قاصر، والنفع المتعدي خيرٌ من القاصر. وفيهما مَثَلان للناس، أحدهما: إنسانٌ عاملٌ، يعمل بجد وصدق وإتقان، وفائدة عمله له، كعابدٍ رَهْبَانيّ، أو طبيب لا يُداوي إلاّ نفسه، أو عالم لا يؤدِّي زكاة علمه. وهم منتفعون بكل حركات العاملين في الأرض في حياتهم، من خابز يخبز، أو عاجنٍ يعجن، أو كانس يكنس، أو صانع يصنع، أو عامل يعمل. وأمّا الآخر: فهو صاحب النّفع المتعدِّي الذي ينفع نفسه وغيره، كعالم يعلّم الناس الكتاب والحكمة، يحيى به الله القلوبَ بعد الموت، ويدرك به الأرواح قبل الفوت، وكمُداوٍ يبرئ -بإذن الله- الأبدانَ، أو كمصلحٍ بين المطرقة والسِّندان. فهؤلاء وأمثالهم، الواحد منهم خيرٌ من ألف رجلٍ من أولئك، في حكم العقول، وحكم الشريعة، ومثله كمثل الحافظ الأمين (النحل)، والأول مَثَله كمَثل أبي خَيثَمة (العنكبوت).