لا أعتقد أن مخلوقًا ما كان يراهن على سلامة وأمن وطنه؛ ولديه ذرة من عقل ومنطق، مهما تعدَّدت أهدافه المعلنة أو السرية، فالوطن والذات لا ينفصلان كثيرًا على كل الأصعدة الوجدانية والعقلية، فمهما شرَّق المرء أو غرَّب يظل مسكونًا بوطنه، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة من واقعنا العربي المعاش، الذي تفاقمت فيه البراكين بسلبياتها وإيجابياتها، ولكل تجربة عشناها، ورأينا تداعياتها، خصوصية سياسية واجتماعية، ولنا كذلك. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة والترقب المر من كل العالم؛ أن مجتمعنا بكل فئاته وطوائفه لا يراهن على سلامة الوطن، وأن للحوار المستمر بيننا مساحة خصبة، ستؤدي بفعل ديناميكية الحياة والتغيرات الحضارية إلى نتائج إيجابية، مهما كان بطئها، وذلك هو ديدن المجتمعات الإنسانية في تغيّرها، كما يعرف من يعي التواريخ ويستقرأها جيدًا. قد نختلف بالطبع ككل البشر في طريقة التفكير والتناول والتفسير، فلكل أدواته وأساليبه، ولكن الأساس ما زال قويًّا في سدة الأعاصير، شامخًا لا يستجيب للشروخ والمعاول، ولا يتراخى كما راهن البعض من المراقبين والمقتنصين بسهولة أمام تيارات التهشيم والعنف والتفرقة الطائفية المقيتة. ورغم ذلك مازال البعض مسلحًا بالتهم الجاهزة، يوجهها كيف شاء ولمن شاء، ويخص بها الإعلاميين والمثقفين والكتّاب دون أن يرف له طرف لمجرد الاختلاف في الرأي حول قضايا المجتمع، في محاولة مقيتة لخندقة هؤلاء في زاوية العداوة الاجتماعية العامة باعتبارهم معاول هدم لا بناء، كما يدّعون، وفي ذلك قمع وقلب للحقيقة، واجتزاء لنص مقيت يتسلل تدريجيًّا وبإصرار مقصود للوعي الجمعي. إن المثقفين على اختلاف تياراتهم لم يسقطوا من الفضاء الرحب، بل جُبلوا من طينة هذا المجتمع، وقدّوا من نسيجه وعاشوا كآبائهم وأجدادهم على ثراه، فلا يصح الرهان على وطنيتهم إطلاقًا الآن، ولا في أي زمان أو أمام الأحداث، كما يتداول ذلك خفافيش المواقع التي كانت، ومازالت منذ فترة طويلة تلاحقهم بالاتهامات الجاهزة، وتدفق عليهم من قواميسها الصفراء سيل من الصفات التهكمية العجيبة.. بل إن المُتأمّل ليرى أنها لم تنشأ في الأساس إلا بهدف الترصد لكل اختلاف فكري مع منشئيها حول معالجة حدث أو قضية اجتماعية مهما صغرت أو كبرت، ثم النفخ في حجم كارثته وأهواله ليصبح ذريعة مقبولة لغمر مخالفيهم بالتهم والغمز من قناتهم على كافة الأصعدة الشخصية والدينية والوطنية، متجاهلين أن لكل وضع سقفًا محدودًا، حتى البشاعة التي يمارسونها، ولكل أمر خطوطه الحمراء، والوطن على رأسها، فلا عبث أمامه بأحد ولا غمز لأيٍّ كان. وكنا نتوقّع منذ فترة طويلة أن تحجم المواقع التي تُصدِّر الكراهية وتلمز الناس وتدس الفرقة في المجتمع، وكنا نعتقد أن التجاهل ترياق قد يطفئ بعض أبخرتها السامة فإذا به يوقدها، وأظن أن الأمر بات يحتاج إلى معالجة جادة من الجهات المعنية. [email protected]