احتل الفنان الموسيقار الراحل رياض السنباطي مكانة بارزة مرموقة قي القرن العشرين، منذ يفوعته حتى توديعه هذه الدنيا الفانية، وما زال محط أنظار محبوه ومقدّري فنه الذي يحمل طابعًا وأسلوبًا متفردًا ومدرسة فنية بعينها. إن كتابة موضوع عن هذا الفنان يجب أن يُطرق من جوانب فنية وعملية وحياتية وجماهيرية، لأنه شخصية معروفة مشهورة بالغة الأهمية ببصمات مؤرخ لها، فالكتابة أو التدوين أو التوثيق عنه قد سبقني الكثيرين في ذلك بطرق وأساليب ورؤية وعمق وتوضيح وجذب مختلفة، شرعت ليكون رياض حاضرًا وقريبًا من كل مهتم أو محب أو متناول أو متذوق، ويكون المتلقي قد خرج بمعلومة أو معلومات تتيح له الاستزادة والاستفادة والوقوف على معرفته، أي «رياض السنباطي»، الكبير بقيمته ووزنه ومرتبته ومكانته وجماهيره، وأثر وتأثير تلك الشخصية والثراء الفكري والعملي والاحترافي التي تملكها، خاصة إذا قمنا ببحث عن منزلة رياض على أرض الواقع، وكلما قرّبنا أكثر منها -قراءةً وسماعًا- فإننا نراها من فرط عظمتها وموقعها متواجدة بين أجيال عاشت ومضت.. وأجيال مخضرمة كان نصيبها أجمل.. وأجيال تعيش على قراءة وسماع ورؤية الإرث الجم الجميل المشاع الذي لا يقدّر، والذي هو من حق الجميع أن يكون في متناولهم ليستمتعوا وينهلوا ويستعذبوا منه متى شاءوا. لقد حباه الله كنزًا بداخله، فأحسن البحث عنه، وسبر أغوار ذاته، فوجد الكنز ونماه وطوّره ولم يبخل به، وحافظ على ذلك آخذًا في الحسبان أنه سيصل إلى الأفضل، وكان. وقد كان ذلك دافعًا لتجارب أغلبها وجلّها رافقه فيها التوفيق والنجاح، وخرج من أفكاره، وشحن ذاته لعالم أكثر اتساعًا أوصلته إلى تقدم هائل من خلال مدرسته التي تقوم على إبراز جماليات اللحن في أروع وأسمى وأرقى وأبسط شكل. حينما تخاطب أصابعه فكره ووجدانه، وتداعب تارة أوتارًا من موج نبعه الجاري. لقد كانت له رؤية ثاقبة وإرادة قوية وعزيمة هي في مجملها العوامل التي تحقق بها حلم رياض، وهي القوى الفاعلة التي يمتلكها، فنهض رياض، وبها نهض الفن وتميّز. فمنذ ظهوره على الساحة لفت الأنظار بشدة حتى إن أعماله اعتلت الساحات الفنية والإعلامية مؤكدًا معرفته وجرأته وإبداعه، وهو الذي ما ان يبدأ في التحضير لعمل ما فيعيش عالمًا آخر ويظل محلقًا مع ما هو بصدده من عمل خام حتى يخرجه متباهيًا يراهن عليه، لأنه تعامل بإحساس وذوق عاليين يضيفان على أعماله إضاءة ورونقًا وتميزًا نابعًا من صدق الحدث الذي يملكه في داخله، حاملًا الكثير من التحدي لأفكاره وذوقه وتذوقه وطموحاته وإلهامه، وإنها في كثير من الأحايين تجلب له تحديات جديدة.. فعلًا لقد حقق رياض السنباطي لنفسه مدخلًا لا يجاريه فيه أحد، وقد غامر في مشواره الفني بثقة نفسية وقدرة كانت في أوجها، بأعمال مليئة بالحنكة، والخبرة، والتجربة فأوجد تركة عظيمة وإرثًا وواقعًا يماثل الهرم الأكبر، ونهر النيل، وموقع في قلوب أبناء العالم العربي. ونتاج حياته الفني أكبر من أن يُحصر في شكل مجمع، لأن كل قطعة موسيقية أو لحن ألّفه، هو في حد ذاته يشكّل عملًا متكاملًا، ليس بتقديري ولا بمعرفتي ولا بتقييمي ولا تثميني، وإنما من خلال أساطين الفن، ومن لهم قدر وباع طويل في هذا المجال. فلو قُدّر أن تسمع عملًا ما من أعماله على العود، فسنسمع العجب، فسيشدّنا ويجذبنا ويستميلنا، أي استمالة بغية أن ننهل ونشتاق إلى سماع بقية الآلات الموسيقية، وإذا سمعناها مجتمعة تحت إمرة رياض، فإننا سننساق بكامل حواسنا ومشاعرنا وما نحمله في طيات ذاتنا ودواخلها للقرب والدنو ثم الدنو ثم الدنو لإشباع أنفسنا من درجة الجريان التي تحيطنا بها أعماله وموسيقاه من كل جانب، بشرط أن ندع ونفك لجام وقيود وهوى أنفسنا لأنفسنا لجعلها تصل لمرحلة ما نشاء من السلطنة الحقّة لنتعدى مرحلة الرضا والقبول إلى مرحلة الأوج ومن يصل لهذه المرحلة فلن يرضى بجودة متناهية غير تلك، لأن ذاتنا امتلأت وحصل لها درجة إشباع ولا يمكن تطويعها وفرض عليها ما هو أقل وأدنى، لأنها ارتقت من خلال متابعة وملاحقة تلك الأعمال القيّمة، فأصبحت من طبقة راقية معينة، كيف لا ومن يحب ويهوى أعمال السنباطي رياض يُعتبر من الصفوة، لأن ليس كل أذن تملك أو تستطيع التقرّب إلى ذلك الفن، إلا إذا كانت تعي وتقدّر قيمة «رياض الفن»، الذي صعد وارتقى قمة الفن، بعد أن أمضى عمره فنًا بفن، ذلك الفن الذي يعتبر من الثقافات العليا. إنه فنان جرى الشرق وحب الأرض في دمه، بأفراحها، وأتراحها، إنه فنان متفجّر عبقرية وإبداعًا، ومنذ بداياته كان هو ينبئ عن وجود مخزون كبير وإنتاج وفير ورغبة عارمة لإثراء الساحة الفنية. إن سماع فنه يصادرك بكل ما تعنيه الكلمة، لأنه -وبلا شك- هناك فارق، وبينه وبين الآخرين مساحات شاسعة واسعة، هو فنان قادر على اتحاف المستمع بفنه، والمتسائل، برد كله فن وطرب ومذاق وجمال ورصانة وقوة وطلاوة وقربًا، فكلما سمعنا أكثر، تعمّق الشعور، وتضاعف الإحساس بقيمة رياض، بحيث يجعل السامع المتذوق مغمورًا بفن راق عال سام. هكذا كان حلمه الذي تحقق بإرادة صلدة، وخيال خصيب. هذا الرياض الندي الذي يجعلنا نتساءل: «لماذا ألحانه لا تموت ولا تندثر ولا تضعف، ولم يصبها الهرم والكبر والشيخوخة؟»، فمن أجمل وأعظم الألحان التي قدمها والمترسبة العالقة في أذهاننا، والتي تمر علينا في المناسبات الدينية فنجد الكثير في الساحة ولكن ألحانه تفرض وجودها، مثلًا في موسم الحج نسمع أو لا نجد سوى «إلى عرفات الله».. هذا العمل الذي يجعلنا نهتز من الأعماق للحن وكلمات منها تقول: «أرى الناس أشتاتًا ومن كل بقعة.. إليك انتهوا من غربة وشتات تساووا.. فلا الأنساب فيها تفاوتٌ.. لديك .. والأقدار مختلفات» ونعيش فرحة ليلة العيد بأغنية: «يا ليلة العيد أنستينا وجدّدتي الأمل فينا هلالك هل لعنينا فرحنا له وغنّينا وقلنا السعد هيجينا على قدرتك يا ليلة العيد» ثم تنقلنا «نهج البردة» فنسمع: «حتى بلغت سماءً لا يطار لها على جناح.. ولا يُسعى على قدم وقيل.. كل نبي عند رتبته.. ويا محمد.. هذا العرش فاستلم» وتعصف بنا الحياة.. ونتوه في الزحام.. وسرعان ما نتوقف لنتأمل كلمات صيغت في لحن وقار قدير «حديث الروح» للشاعر محمد إقبال: «إذا الإيمان ضاع فلا أمان.. ولا دنيا لمن لم يحي دينه» ثم نطوف بالبيت العتيق.. نعيش النفحات.. والرحمات.. نتذكّر مع خفق القلوب ونحضر مع «دعاني لبيته».. هذه الأبيات للشاعر بيرم التونسي: «مكة وفيها جبال النور.. طالّة على البيت المعمور دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام.. بعفو رب غفور» ويهيم الشاعر في مديح الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام دون أن نتمكن من الوصول إلى ما يعبّر عن مكنون النفس في الأبيات: «أبا الزهراء قد جاوزت قدري.. بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيانٍ.. إذا لم يتخذك له.. كتابا» قد يقول قائل إن كلمات شعر شوقي (أمير الشعراء) هي التي تحمل كل هذه المشاعر.. نعم إنها كذلك.. لكنها -أي الأبيات- وغيرها ظلت كثيرًا حبيسة الكتب والمكتبات مقصورة على الدارسين والباحثين والمتخصصين -ولكن- من الذي قدمها وخدمها وجمّلها وأوصلها إلى الناس إلى كل القلوب.. حتمًا إنه اللحن الصادق القادر النافذ إلى شخصية فنية أرى أنها لم تأخذ حقها وقدرها سوى عند المحبين لهذا النوع من الفن الجميل.. ورياض العملاق لم يكن يومًا يحتاج إلى تقدير من جهات إعلامية أو ثقافية.. أو.. أو.. فقد سكن القلوب، وله محبوه الذين أدركوا عبقريته، وأكدوها وما زالوا يحملونها وابتعدوا وابعدوا سمعهم وذوقهم وحسهم عن الغث من الألحان التي تصيب بالصمم والتي ليس لها هوية غير رفع صوت المكبرات واستلقام المايك في الفم وكأنه جزء منه، تخفيفًا لرعونة وهواجة تلك الاصوات. رحم الله رياض السنباطي.. الموسيقار الكبير.. الذي لا يحتاج الى أي شهادة إلا الذكرى.. ذاك العزيز النفس المترفع البسيط. بعض الاغاني التي لحنها رياض السنباطي ((النيل- ولد الهدى- افرح يا قلبي- سلوا قلبي- نهج البردة- أصون كرامتي- على بلد المحبوب- ياظالمني- فاكر لما كنت جنبي- أذكريني- دعاني لبيته- القلب يعشق كل جميل- طوف وشوف- لا يا حبيبي- أقولك إيه عن الشوق- لسه فاكر- حيرت قلبي- هجرتك- دليلي احتار- عودت عيني- شمس الأصيل- أروح لمين- قصة حبي- جددت حبك ليه- سهران لوحدي- ياللي كان يشجيك أنيني- يا طول عذابي- هلت ليالي القمر- غنّى الربيع- ظلموني الناس- ح أقابله بكرة- الثلاثية المقدسة- على عيني بكت عيني- من أجل عينيك- أقبل الليل- يا صحبة الراح- حديث الروح- الأطلال- ثورة الشك- إلى عرفات الله- قصة الأمس- عرفت الهوى- أغار من نسمة الجنوب- مصر تتحدث عن نفسها- رباعيات الخيام)). وكثير من الأغاني الوطنية والطقطوقات والأناشيد..