ربما كانت كلمة (التطرّف) من أكثر الألفاظ إلحاحًا على ألسن الكتبة والإعلاميين والساسة في هذا الوقت، ولعل أحداث نيويورك وتداعياتها دفعتها دفعًا إلى مقدمة المصطلحات الدارجة التي تعبر عن بعض مكنونات النفس، وتغني عن تطويل وسرد عريض، وهي كلمة مولدة غير أصيلة، ويفترض أنها تعني عند مَن يطلقها وقوف الإنسان في طرف بعيد عن مركز الوسط. ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء. فأنت إذا افترضت نفسك تعبيرًا عن الوسط، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، كما كان يقول أرسطو، وقرر هذا علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا). إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية “الوسطية” فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعًا لذلك، فهذا يمين، وهذا يسار، وذاك يمين اليمين، وذاك يسار اليسار، وهذا متطرف، وهذا غير متطرف. ولنا أن نعتبر هذا امتدادًا للمبالغة في رؤية الذات وتقدير قيمتها واعتبارها ميزانًا للحكم والتقدير، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم. إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال، وهذه قيمة شريفة، ونعمة غالية، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل، فلا تبغي إحداها على الأخرى، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس. وبإزاء هؤلاء جُبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها، كصفة الغضب، أو صفة الشهوة، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس، فأحيانًا يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس، وأحيانًا العكس، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطة في مناهج التفكير والتربية، بل والعلم والمعرفة. وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيرًا، وأعظم وقعًا. ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة. ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس. ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق والتأثر به والتسليم له، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية. ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية، والقلب الغافل بالأرض الميتة، قال الله جل شأنه: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). ثم عقب بقوله: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون). قال ابن كثير في تفسيره: فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها.. وفي البخاري (77) ومسلم (4232) وأحمد (18752) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل مَن فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).