المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة الأولون كمجتمع للفضيلة والعلم والسلوك الخلاّق، لم يُكملوا ويعيشوا حلمهم الجميل كما أرادوا، ولو في عالم الخيال، بل داهمتهم كوابيس الواقع وفاجعات الأيام، وتلاشت ذكرى الحلم الجميل الذي تمنّوه بمغالبات الغوغاء و شرائع الاستبداد وفساد السلطات. فأفلاطون صاحب الجمهورية الفاضلة مات في أكاديميّته العلمية وليس في جمهوريته الفاضلة، بعدما هرب من مضايقات الأصدقاء قبل الأعداء، والفارابي الذي حاول التوفيق بين أفلاطون ونظرياته الدينية تُوفّي مقتولاً على أيدي عصابات خارجة على قانون الفضيلة، وأما محاولة ابن خلدون رسم هذه المدن الفاضلة في مقدمته المشهورة فقد انتهت به معزولاً في قلعة ابن سلامة بالجزائر، ثم خروجه إلى تونس، ثم إلى القاهرة، ليموت فيها موجوعاً بفقد أهله وضياع ماله. ولم يكن الفقيه ابن رشد بأحسن حالاً ممن سبقه؛ فقد قدّم تجربته في صناعة السياسة الفاضلة من خلال ترجمته وتلخيصه لكتاب أفلاطون، ومع ذلك كانت نهايته بالنفي وحرق كتبه والتحذير منه، ولم ينعم بالعفو إلاّ قبل عام على وفاته. هذه الصورة الخيالية لعالَم ٍ نقي من الفساد والاستبداد عانى منها منظروها قبل غيرهم، وضاقت عليهم دنياهم بما رحبت، وجنت عليهم أحلامهم الفاضلة؛ وما كانوا بتأويل الواقع بعالمين، ومع ذلك فليست طوباويّتهم بالمستحيلة عقلاً ولا واقعاً، ويمكن تحقيقها بشكل تام، كما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كما ذكره ابن رشد في مدينتهم النبوية، ولكن في عالم اليوم يعتبر الحديث عن مدن فاضلة بالمعنى الشمولي ضرباً من المستحيل الواقعي، ومجتمعاتنا المحلية تثبت لنا عدم إمكانيته العقلية فضلاً عن الواقعية، وذلك من عدة أمور منها غياب العدل والمساواة في الحقوق، وكذلك تغلغل الفساد والمحسوبيات في المهام الإدارية بدلاً من القوة والأمانة، وتشتت التخطيط وهامشية التنفيذ للبرامج الإصلاحية، وأعتقد أن من أهمها - من وجهة نظري - ضعف الوعي الرقابي لدى بعض المسؤولين والأفراد. فالمسؤول الذي لا يراقب الله تعالى في عمله، يستطيع أن يخالف ولي أمره من باب الأولى، والفرد الذي لا يقوم بدوره في الأمر بالمعروف والاحتساب على أصحاب المنكرات، مساهم بشكل كبير في تردي الوضع وتجذّر الفساد، والحاجة اليوم قائمة لمأسسة الرقابة الشعبية، و حوكمة الأداء الرقابي الرسمي ليكون أكثر فاعلية في تنقية الأجواء من الخيانات والفساد. ولعل ما جاء في تقرير منظمة الشفافية لعام 2009م دليل على هذا التردي في واقعنا الإسلامي؛ فلا توجد دولة عربية في القائمة الأولى في الشفافية، بل أكثرها دون الأربعين في الترتيب سوى قطر والإمارات ومنها ما هو في ذيل القائمة، وحول أسباب الفساد في القطاعات والخدمات الحكومية ذكر 93% ممن شملتهم الدراسة التي قامت بها المنظمة خلال إعداد التقرير- أن السبب هو غياب العقوبات، ويرى 84% أن السبب هو الرغبة في الحصول على الثروة الشخصية، ويرى 78% أن السبب سوء استغلال السلطة، ويرى 66% أن السبب هو عدم وجود معايير واضحة للسلوك، ويرى 57% أن السبب هو ضغوط من المديرين أو أشخاص في مراكز عليا، ويرى 81% أن السبب هو انعدام الشفافية. والفكر الإسلامي قدّم للعالم نظماً راقية للعمل الرقابي تُنمي عن وعي كبير لأهمية هذا الجانب في مسيرة التغيير والإصلاح؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- مارس الرقابة المحاسبية على عماله، مثل قصة عامله ابن اللتبيّة على الصدقة، فلما جاء حاسبه كعادته مع عماله، فقال ابن اللتبية: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلاّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً"؟ ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاّني الله فيأتيني فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أُهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديّته إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حقه إلاّ لقي الله -عز وجل- بحمله يوم القيامة". ومواقف عمر -رضي الله عنه- في محاسبة عماله مشهورة حتى وفاته، وهذا سَنَن الخلفاء من بعدهم، ولكن لم تكتمل منظومة هذا البناء طويلاً، بل أصابتها لأْواء التخلّف والضعف في العهود اللاحقة، والتراتيب الإدارية في محاسبة العمال وأصحاب الولايات تذكّر بالصحة المجتمعية التي مارسها السابقون، كما تحكي التقدم الكبير في نظم الرقابة المالية التي باشرها ديوان المكاتبات والمراجعات وديوان الأزمة، بالإضافة إلى الأنظمة الراقية والأحكام البديعة التي حوتها كتب تدوين عمل والي المظالم والمحتسب، كما أن نُظُم الضبط الداخلي المتبعة في دواوين الأموال، قد أحكمت الرقابة على موارد بيت المال ومصارفه من السرقة أو الإهمال والتضييع. هذه التدابير الضرورية تحتاج في واقعنا المعاصر إلى بداية لاهبة وقوية تنبعث من داخل الأنفس، للإسراع في ضبط وتيرة التقدم و تحديد بوصلة الاتجاه الصحيح، و حفظ المكتسبات من التغييب أو التضييع، كما أن دور العقاب الرادع بات مهماً وضرورياً لإثبات صدق العمل وإخراج الأورام السرطانية، ولو ببتر العضو الضارّ والفاسد حتى لا تغزو عدواه باقي الجسد الصحيح. لذا تكمن أولوية البدء بالوعي الرقابي في جميع الميادين وتنظيم دوره في المؤسسات المدنية، وإقامة المحاكم العادلة لمعاقبة المفسدين علناً بما يضمن الشفافية في ردع الخونة والمحاربين لمكتسبات الوطن، كما أن تقنين نظم الإفصاح عن الممتلكات قبل التولي وبعده بات ضرورة معاصرة في ظل استغلال النفوذ للاتجار غير المشروع. وكما أكّدتُ من قبل أعيد في الختام أن جميع مشاريع وبرامج النهضة والتقدم كلها طموحات لمدينة فاضلة، لا يمكن أن نتلمس حقيقتها أو نوجد بعض ضواحيها، إلاّ بقدر كبير من الوعي الرقابي على كل مسؤولي التنفيذ، ولا يستقيم عمل الرقيب المحاسب إلاّ من خلال سلطة نافذة ومستقلة تحاسب الجميع "من أين لك هذا"؟! حينها نقول لكل مسؤول: "عدلت فأمنت فسلمت وتقدمت بلادك"!! !!Article.footers.image-caption!!