ثمة لحظات لا يعود للكلام حاجة، تسودها نوبة مشاعر جياشة مسكتة لا يفيد معها كلام. طوال أسبوعين خبرت مصر لحظة من هذا النوع. لن ينصب حديثي هنا عن اللحظة رغم أهميتها، إنما على هامشها، موضوعي الكلام وسكوته!.. خذ حقيقة على بساطتها قد لا تكون واضحة: الكلام أداة عقلية، ليست أساسًا أداةً للتعبير الانفعالي الفني. صحيح أن له هذا الجانب الانفعالي، إلاّ أنه وظيفة ثانوية هامشية، وظيفته الرئيسة (التي تطور إليها لاحقًا) خادمة للعقل سواء عند القول أو السماع. الكلام أداة لإيصال المعنى بالشكل الذى ييسر إدراكه. في لحظات الانفعال العالي الكثيف، الغضب والحزن وما شابه، يكف تمامًا الدور العقلاني للكلام، وبالتالي الفائدة من القول والسماع، مثلما الحال قبيل وخلال الأسبوعين. حال لا تعتري الأفراد والجماعات بلا أسباب أو مقدمات، دائمًا ما يسبقها زمن مديد يتعطل فيه الحوار والدور العقلى للكلام، أي لكي نصل للحظة لا يعود الكلام فيها ممكنًا، أو مفيدًا يجب قبلها أن نمر على زمن مديد لا تكون فيه الوظيفة الرئيسة للكلام مطلوبة. ما الذي يحيد بالكلام عن دوره كأداة عقلانية؟. لكي يكون أداةً بهذه الصفة يجب أن تكون الحقيقة مطلبه، والحكمة منهجه، والبحث المحايد طريقه، ويفقد هذه الصفة تمامًا إن كانت المصلحة دافعه، أتمثلت هذه المصلحة دفعًا لأذى، أو سعيًا لمغنم. الكلام الذي تحركه المصالح يسوده كل ما نعرف من عيوب الحوار، تدور حواراته فى دائرة مغلقة، انفعالي لا يدعمه سوى فنيات التعبير (البلاغة)، لا فائدة منه ولا نتيجة سوى مزيد من حشد وتكثيف المشاعر، نفس الدور الذى يؤديه الكبت يؤديه الكلام الانفعالي بطريقة أسرع وأشد. شيوع كلام من هذا النوع دليل على أن الكلام بوظيفته الإيجابية غير مطلوب، غائب أو مغيّب. حشد المشاعر وتكثيفها فعل تراكمى لا يستمر هكذا إلى ما لا نهاية، في نقطة معينة تبعد أو تقرب يقع انفجار، لك تصور ما حدث فى مصر بهذا الإطار. لم يك هناك كبت للكلام بالشكل المطلق، على العكس، كانت صحف المعارضة تطلق العنان لكلامها الانفعالي، إلى مستويات لا تصدق بما يفوق الحال فى الصحافة اللبنانية التى لا تعرف الخطوط الحمراء، إلاّ أنه مجرد خطاب انفعالي غير منظم التفكير، وبالتالى مشوش، يرد عليه بمثله، في جدل لا يتقدم إنما يدور فى دوائر مفرغة، لا نتيجة لها سوى الشحن وزيادة الاحتقان. الأكثر مدعاة للكآبة وللإحباط أن لا مجال للكلام العقلاني في السياسة، على عكس ما يدعيه خطابها، السياسة بطبيعتها وباعتبارها جدلاً بين مصالح يستحيل أن يكون حوارها عقلانيًّا بمستوى المنهجية المتاح للعلوم والفلسفة، جميع حقائقها نسبية، والمصالح التي تعبر عنها قوية صلبة، أقوى من أي منطق وحكمة. أسوأ أشكال الحوار تجدها عندما تكون السياسة موضوعًا، وأغبى أشكال السلوك وأشدها حماقة وعنفًا تراها في الخلاف السياسي، فأطرافها لا تبحث عن حقيقة أو صواب، إنما تدافع عن مصالح، لذلك هناك استحالة مطلقة أن تتحدث فى السياسة مجردًا من الهوى، أيًّا كان موقفك وهواك وأسبابهما، وبصرف النظر أن من المصالح ما هو وضيع، وما هو شريف. [email protected]