لم تمنع حادثة سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» من متحف محمد محمود خليل بمصر، وما طال وزارة الثقافة المصرية من اتهامات بالتقصير، بتوجيه أصابع الاتهام لشخصيات بارزة فيها.. لم يمنع ذلك وزير الثقافة المصري السابق فاروق حسني من تقديم تجربته التشكيلية الجديدة في المعرض الذي درج على تقديمه سنويًّا، والذي احتضنته هذه المرة قاعة “أفق واحد” بالمتحف.. وسط حضور لافتة لنجوم السياسة والفن ورجال الأعمال الذين قلما يتجمعون في مثل هذا المكان إلا في افتتاح معرض فاروق حسني، والذي يبدو أن يرسل رسالة جمالية ما في ذات الموقع الذي أدخل وزارته في حرج كبير.. وبعيدًا عن رمزية المكان وإيحائيته؛ وغوصًا فالأعمال التشكيلية لحسني، فالملاحظ أن التعامل مع معارض فاروق حسني يختلف على مستويين من النقد واحتفاء جماهيري تختلف درجاته بين افتتاح المعرض الذي يكون أشبه بحفل أكثر منه معرض تشكيلي بحضور سينمائيين ورجال أعمال جاءوا مجاملة للوزير، وإبداء آراء سطحية في أعمال تبدو عميقة المعني بالمفهوم التشكيلي، في حين يغيب التشكيليون عن الافتتاح ويفضلون زيارة المعرض بعد أيام من افتتاحه لمتابعة الحركة التشكيلية وتطور خط فاروق حسني في معرضه السنوي الذي فضل نقله هذا العام إلى قاعة أفق واحد بمتحف محمد محمود خليل بالقاهرة رغم اعتياده العرض السنوي بقاعة خاصة بضاحية الزمالك. هذه المقارنة تضع تجربة فاروق حسني في منطقة مغايرة عن وضعه الحقيقي بين التجريديين ومكانة هذا الفن بين الجمهور العادي الذي يرى لوحات الوزير عبثا فنيا ويبررون الاحتفاء النقدي بها كمحاولة للمجاملة والهروب من أسئلة حول أهمية ما يقدمه مقارنة بفنانين كبار لهم تجارب مختلفة، أو حتى ينتمون إلى المرحلة التجريدية مثل الفنان عبدالوهاب مرسي الذي تحمل أعماله لمسة تجريدية رمزية يعتمد فيها على ملامح مصرية قديمة تختلف عن تجريدية فاروق حسني التعبيرية التي تعتمد على اللون كبطل أساسي في اللوحة وما يحمله من دراما اللون مرتبط بخطوط تقود المتلقي إلى مفاتيح فهم اللوحة بقليل من الصبر أمام أعمال تقدم رؤية مغايرة للعالم من خلال الألوان. إقامة المعرض في مساحة عرض أكبر من القاعة الخاصة التي اعتادت أن تستضيف معرض حسني السنوي وضعت إيهاب اللبان مدير قاعة “أفق واحد” في تحدٍ حسب قوله: "يتعلق بكيفية البحث عن أسلوب عرض يصلح لملاءمة الأسئلة التي يطرحها التجريد كفنٍ مثيرٍ للخيال وباعثٍ على التأمل، إضافة لما يتمتع به فن " فاروق حسني" من مميزات تصبّ في صالح قدرته على معانقة عين المشاهد وفكره معًا محققًا لها الأقصى من المتعة البصرية والتجسد الجمالي وداعيًا إلى المراجعة والتساؤل. اكتشاف العالم وقد حاول الناقد المصري الدكتور ياسر منجي خلال دراسة بحثية صدرت في كتيب المعرض التعامل مع تجربة فاروق حسني كفنان، بعيدًا عن موقعه السياسي كوزير، مشيرًا في افتتاح بحثه إن سياسيين لم تؤثر أعمالهم السياسية على حجم إبداعهم الشخصي وإن ألتفت النقاد إلى تفسير تجاربهم الفنية حسب تدرجهم الوظيفي وهو ما حدث مع حسني ،ويقول منجي في كتيب المعرض" فاروق حسني في معرضه الحالي يطرح المعنى وجوهره وهو تحول تتفاوت معه الدلالات الناجم عن تنوع صياغاته فالمعني هو المفهوم الظاهر في عموم الصورة، أما قلب المعنى فمرحلة تتجاوز المعني الظاهر إلى المستوى الباطني في الإشارة والاستعارة وهى مرحلة يكون فيها التفاوت في مغزى الصورة مدينا لتكثيف الصياغة، وجوهر المعنى يقوم على مستويات متفاوتة في الدلالة والتأثير معًا وهو ما يحيلنا إلى التأمل في أثر التناوب بين المجاز والصريح". وأضاف " أعمال فاروق هي وسيلته لاستبطان ذاته واكتشاف العالم من حوله فهو يتأمل بالفن مستعيضًا عن الكلمات الشارحة بمطلقيه الألوان في انفجارية غنائية روحانية تتجاوز يود الزمان والمكان ويعيد تنضيد العلاقات الخارجية للعالم المبصور وترتيبها فخرج في هذا المعرض من الفطرة إلى الفطنة ". تدرج تعامل حسنى مع ألوانه الأثيرة فأدخل اللون الأسود القاتم كمحدد للعناصر أو سياج فاصل بين المساحات لمعادلة الثقل أو ليحد من طموح كيان هرمي يريد الانطلاق ويطوعه بعناصر ربط كرؤوس سهمية تحرض عين المتلقي على تتبع الحركة في سياق محدد، ولم يستخدم اللون الأبيض بحجم الأسود ولكنه تحكم في درجة كثافة اللون وشفافيته ليكون رمانة الميزان لضبط الائتلاف بين الكتل والمساحات والفراغات ،و الشحنة العاطفية في أعمال هذا المعرض مراوغة إلى حد كبير –حسب وصف منجي – فقد أدى تخلي حسني عن خطته الحركية الانفجارية المعتادة – إلا في قليل من الأعمال – وتبنّيه خطة سكونية تأملية طبع أعمال المعرض في عمومها بطابع من عدم التشبع الوجداني ، فيشعر المتلقي أثناء التجول بين لوحات المعرض بمن يشتكى عدم اكتمال مشاعره ساردًا حكايا حب لم يبغ ذروته ودفقات غضب لم تنفجر، ولحظة اشتهاء لم تبح حدود التمني، وإذ بسهم انفتح عنه قوسه وانفلت صوب أشباح حروف لا دلالة لها ينبأ بأن الوجدان لا يزال أسير ترحاله الذي لم يشبع منه بعد". ويضيف منجي "خلال العشر سنوات الأخيرة كان يتأكد في أعمال حسني مسألة الحركة الشديدة في مفرداته البصرية، سواء في الأشكال أو الخلفية، وارتبط ذلك بألوان صريحة شديدة القوة والعنف، كاستخدامه مثلا للون الأصفر المضيء جدا، والأزرق البحري، وبعض المواضع التي كان يتخذها للون الأحمر المباشر، فهذا يعزز من اندفاع القيمة الحركية في أعماله. أما المعرض الحالي فقد كسر فيه أفق التوقعات للعديد من المتابعين بسبب اختفاء عنف الحركة في اللوحة تقريبا، والبحث عن فكرة السكون والتوازن في التكوين، وهذا ظهر بشدة في استخدامه للأشكال الهندسية الراسخة والساكنة وتوسعه في استخدام الألوان الأسود والأبيض والرمادي. وذلك يتضح في المرحلة الوردية لبيكاسو حيث استخدم مشتقات الرمادي الخفيفة، وفي الوقت نفسه ظهرت أشكال جديدة في المعرض الحالي لدى حسني، إذا اردنا أن نصفها سنجد أنها أشكال لأشخاص مبسطة جدا ومسطحة، فأحيانا تعطي الانطباع أننا ننظر لأشكال افتتاح المعرض مبسطة لبشر أو أشكال كبسولات لمركبات فضائية سابحة واللوحات عموما تعطي فرصة لعدد من التأويلات. وتوقع د. منجي أن يظل فاروق حسني في معرض قادم أو معرضين داخل هذه المنطقة، وهي البحث في التكوينات الساكنة والهادئة إلا إذا دعته حالته النفسية مجددا للحنين للحركة ، وهو بحكم أنه تجريدي تعبيري، فالعنصر النفسي والانفعالي لديه هو الأساس قبل الفكرة الفلسفية.