منذ زمانٍ وأنا أحفرُ في هذا الظلام الموحشِ لا أحفرُ بحثًا عن مفاتيح قلاعٍ أو كنوزِ مدنٍ ميّتةٍ.. عن رُقُمٍ سوداءَ أو تيجانِ أجدادِ ملوكٍ حُفظتْ أسمالهم في الطينِ.. لا؛ بل أحفرُ الظلام كي أُبصر أسمائيَ في آخره.. أحفرُ كي أنظف المرآةَ من غبارها الأبكمِ.. أحفرُ الغيابَ كي أَرى شهوةَ نفسي حيّةً في صدأ الغيابْ.. أحفرُ .. لا مستعجلاً ولا ملُولاً.. أجمعُ الغصاتِ في إنائها الأسودِ والدموعَ في إنائها الكحليَّ والدماءَ في إنائها الحزينِ.. ثم أنفخُ الحياة في الحبرِ.. ... إذنْ: أحفرُ.. بلْ أحفرُ كي أرى ما لا يُرى إلاّ بعينِ القلبْ: أحفرُ كي أراني.. وهاأنا الآنَ كأنْ لستُ أنا أعود كالمنجّمِ الأعمى إلى ديار أسلافي أَعدُّ الحجرَ الصامتَ والغبارَ حيرةَ الأشجار في هوائها الشائخِ.. ما خلّفهُ النسيانُ من تأتأةِ الطيورِ فوق غُصُنِ الحضارة الدامي.. أَعُدّ ضجرَ الظلالِ فوق نَعشها الأخضرِ (لا ظِلَّ لها سواها طافيةً فوق الخرابِ!..) وأَعُدّ وحشتي.