تساءل أحمد حسن فتيحي عن كيفية الحديث عن مدينة جدة خلال عقود ستة.. كيف نبدأ.. هل نبدأ من الماضي.. أو الحاضر.. أو رؤية مستقبلية، وقال: وجدت قلمي ينحاز إلى الماضي وصولاً للحاضر، أما المستقبل فسوف تعاصرونه وتعيشون أحداثه، ويمكن بذلك ربط المستقبل بالأحداث الحاضرة لتتبّع مسيرتها. جاء ذلك في محاضرة ألقاها فتيحي مساء أمس الأول في ديوانية جدة وكانت بعنوان “بيت ومدرسة وقدوة ومجتمع، عقود ستة لمدينة جدة» وسط حضور اكتظت به الديوانية، وأضاف فتيحي: قادني لذلك إلى أن ابدأ بالمفردات المعروفة لمكونات تكوين الفرد في مجتمعه (البيت- المدرسة- القدوة- المجتمع)، فهذه المفردات هي المكونات الرئيسية للفرد وتربيته ونشأته وتأثيره، فالمدرسة عليها العمل مبكراً، والبيت متابعاً ومؤازراً، والفرد مرآة المجتمع والقدوة في كل الرموز حول المجتمع والبيت والمدرسة، وهذا هو رأس المال الاجتماعي، وقد حددنا تعريفاً له بأنه هو القيم والمثل والمبادىء والأخلاق والإبداعات والمهارات التي يملكها المجتمع أيّا كان وفي أي مكان، ورأس المال الاجتماعي يحافظ على رأس المال الاقتصادي وينمّي ويتقن رأس المال الإنتاجي، وكل هذه أخلاقيات متلاصقة متلازمة كل منها يمثّل قوة المجتمع وقدرته على التفوق والإجادة بالتزام أخلاقي مثالي، وعندما بدأ انهيار في رأس المال الاجتماعي أوجدت الشركات قاموساً جديداً أسمته أخلاقيات العمل، وأخلاقيات العمل عندنا فطرية كان تجارها وأهلها ومن فيها مؤمنين بها عاملين على تحقيقها، كما أن البيت والمدرسة قادرين على تصديرها، وإذا كانت أخلاقيات العمل عندنا فطرية فهل تغيّرت، فإذا تغيّرت فذاك يعني أن الفرد والمدرسة والقدوة والمجتمع قد تغيّروا والجواب: نعم.. هناك تغيّر كامل يستدعي الحديث عن رأس المال الاجتماعي الذي ذكرته، وبل بكل تأكيد هناك منعطفات كبيرة وتدهور، وأجد نفسي بل أقول إن الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية كتلة واحدة لا يمكن تجزئتها أو تبرئة إحداها عن الأخرى، فالحالة السياسية تؤثر في الاقتصادية ثم الاجتماعية والثقافية والعلمية. وأشار فتيحي إلى أوائل الخمسينات ميلادية وما قبل عندما اعتمدت العلاقات العربية في مجموعها على أخذ أسباب العلم من القاهرة التي كانت تُعتبر مورداً كاملاً للقدرة العلمية والثقافية، ومجتمعنا السعودي اعتمد على المنهج التعليمي المصري والمدرسين المصريين، وكانت الثقافة الإسلامية الدينية تسيطر سيطرة كاملة على الأداء والمنهج والتطبيق العملي، فالإعلام المصري كان له وجود أكبر في الفكر السعودي خاصةً أن البعثات الأولى في المملكة كانت إلى القاهرة، فإذن الفكر الثقافي كان يؤدي إلى الأخذ بأسباب ذلك الفكر في التطبيق العملي في تلك الحقبة ونشأ بذلك جيل يحمل ثقافة عربية دينية قادرة على التواصل وقابلة للتعايش حتى اقتصادياً، وفي أوائل الستينات الميلادية دخلت على المنطقة العربية مجموعة مفاهيم جديدة (أيديولوجيات) أدت إلى تأثر بعض مثقفينا في المنطقة. كما تحدث فتيحي عن الأساس التعاملي بين الأفراد وبين الدول الأخرى وبعضها، وعن منتصف السبعينات الميلادية عندما دخل العالم في دوامة الانعتاق الاقتصادي من الذهب وتحديد قيمته السوقية التي سيرتبط بها الدولار الأمريكي، وبدأت الأمور الاقتصادية تأخذ مجرى آخر في العالم، وبدأت الحالة الاقتصادية مع الاستقرار السياسي والأمني بالمملكة إلى التدفق النقدي والبناء في كل مجالات الحياة لتقوم نهضة شاملة. وأكد فتيحي أنه باتفاق الاقتصاد مع السياسة تأثر المجتمع بتلك التدفقات النقدية والتقدم العمراني واختلف نظام الأسرة والمجتمع وأصبح الأب مشغولاً وتخلت الأم وضاعت القدوة وافتقدت المدرسة دورها الطليعي التربوي وعاش المجتمع في بحبوحة ورفاهية دون قدوة في بيته ومدرسته، وباختصار شديد لتلك المتناقضات السريعة والمتغيّرات الفكرية والجذرية والانتقالات من حالات إلى أخرى، عاشت المملكة حالة من الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ولكنها أثّرت تأثيراً غير مباشر على الحالة الاجتماعية وأنماط الحياة السابقة المتمثلة في أخلاقيات أفرادها ومجتمعها، فكبر الصغار بمفهوم جديد وعلاقات جديدة وثقافة جديدة وتعامل مختلف عما كان عليه أسلافهم ومن سبقوهم، وظهر مصطلح “أخلاقيات العمل” بواسطة الشركات والسؤال هو: هل يمكن للأخلاقيات أن تتجزأ بحيث يكون هناك أخلاق للعمل وأخلاق للبيت وأخلاق للشارع وأخلاق للصحبة والأبوة وغيرها! لا اعتقد أن هناك تجزئة يمكن أن نركز عليها ولكن الذي يمكن أن ندرسه هو أخلاقيات المجتمع بداية من المدرسة والبيت والقدوة والمجتمع ككل وفي كل النواحي لتتناغم الألحان بمفهوم متعارف عليه ومقبول بشكله ومضمونه في داخل المؤسسة العملية والمؤسسة الاجتماعية والثقافية وكل النواحي المختلفة، وهذا كله يمكن تحقيقه إذا عدنا مرةً أخرى إلى ما بدأنا وتلك القيم والمثل والمهارات والمعرفة.