خص الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة ليس للإنسان وحده بل لكل العالمين من إنس وملائكة وجان وحيوان وجماد، ولو نظرنا إلى سياق هذه الآيات نجدها تبدأ بصفة أهل الجنة فقال تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) وتنتهي هذه الآيات بقوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فالله عز وجل كتب في الزبور وهو على وجه الخصوص كتاب داود عليه السلام وعلى وجه العموم جميع الكتب السماوية، أما الذكر فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه العلم، وآخرون قالوا إنه القرآن وكلاهما صحيح. أما الأرض فقد قال بعض العلماء إنها أرض الجنة لكن الأرجح هي الأرض المقدسة فلا يرثها إلا عباد الله الصالحون، ولا يعني ذلك العرب ولا اليهود بل الصالحين من عباد الله، وقد شاهدنا أن غير الصالحين لا يستقرون فيها وخاصة بني إسرائيل الذين لم يلتزموا بالوصايا العشر وما جاء في الألواح، فالصلاح والعدل هما جواز الاستقرار في القدس، وفي هذا بلاغ لقوم عابدين. فالنبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أوجه الصلاح، فكان رحمة للعالمين، فكما هو رحمة في الدين فهو رحمة في الدنيا، فعندما بعث عليه الصلاة والسلام كان الفساد يعم أرجاء الأرض فبرحمة من الله لخلقه بعث نبيه رحمة للعالمين، فدعى البشرية إلى الحق والعدل وبيّن لهم سبل الخير فشرع لهم الأحكام التي أمر الله بها وبين لهم الحلال والحرام، ولا ينتفع بهذه الرحمة إلا من كانت همته طلب الحق في الدنيا، فكان للذين آمنوا هدى وشفاء، فخلصهم الله عز وجل به من الذل والقتال والحروب ونصر الله به المسلمين والاسلام، فأشاع المحبة والرحمة حتى عمت أرجاء الأرض. وهناك من يقول كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ والجواب ان الله عز وجل جعل العدالة محمية بالعقوبة ولا تستقيم إلا بها، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجل عليه عدوانا واحدا، بل كان حربا على من ظلم نفسه وغيره واستكبر، فالإسلام لم يأت لقتال الكفار بسبب كفرهم بل بسبب ظلمهم. فكما أن الله عز وجل رحمن رحيم، فمن تمام العدالة أن ينتقم من الظلمة والعصاة، فالأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا كذبهم قومهم أهلك الله المكذبين بالغرق، والزلازل، والخسف، والمسخ، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخر عقاب المكذبين الى الآخرة، إما بعد الموت أو يوم القيامة، وفي هذا فرصة للعودة إلى الحق فقال تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). لقد كانت رحمة النبي عليه الصلاة والسلام تتسع حتى للكفار والظلمة فقد قال أبوهريرة، قيل لرسول الله ادع على المشركين فقال لهم (إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانًا)، والرحمة أنواع، ومن تمام رحمته على الكافرين أنه كان يدعوهم إلى الإسلام لعل الله يلطف بهم وهو يعلم أنهم من أصحاب النار، وهذا ما حدث في حال أبي لهب، أما في حال عبدالله بن أبي بن سلول شيخ المنافقين فإن الله أبلغ النبي انه لن يغفر للمنافقين حتى لو استغفر لهم النبي فقال تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فقال عليه الصلاة والسلام (لو أعلم أن الله سيغفر لهم بعد السبعين لاستغفرت لهم). ولأن الملائكة من العالمين، فإن الله أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للملائكة أيضا، فوجب أن يكون أفضل منهم مع أن الملائكة رحمة لأنهم يستغفرون للذين آمنوا، لكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم التي أتاه الله إياها تقوم على الرحمة التي جعلها للملائكة، مع أن الرسول داخل في زمرة المؤمنين. فالرحمة هي الرفق والاشفاق وكل ما يقتضي التعطف والمغفرة والإحسان، والرحيم من أسماء الله الحسنى، أما رحمة الله سبحانه وتعالى فتتجلى في عدة أمور، أولها ألا تميل إلى الباطل وتزيغ إلى العقائد الفاسدة فينوّر الله القلوب بالمعرفة، والجوارح بالطاعة، فيكون القلب عامرًا بالإيمان والتوحيد في الجوارح نور الطاعة والعبودية، فتطيب الحياة سهولة في أسباب العيش وأمن وصحة، وعند الموت سهولة السكرات، وفي القبر سهولة السؤال وانكشاف الظلم، وفي القيامة سهولة العقاب والخطاب والعفو عند السيئات، فقال تعالى (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب). فالرحمة من الله ومن صفاته، فلا رحمة إلا لله سبحانه، وهو ما تؤيده الآية الكريمة من سورة آل عمران (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك) فلولا ان الله يلقي في قلب قلب العبد داعية الخير والرحمة والله لم يفعل شيئا منها، فكل رحيم سوى الله يستفيد من رحمته أو يهرب من العقاب أو يطلب الآخرة والثواب، أو يبعد عنه سببًا من أسباب المكروه والبلاء، فكل من أعانه على الرحمة أطلق عيه رحيمًا، قال عليه الصلاة والسلام (الراحمون يرحمهم الرحمن) فكمال رحمة الله في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرَّفه مفاسد الفظاظة والغلظة. • رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية