عجيب أمرنا. قدم لنا الملك عبدالله -حماه الله- ألفاظًا لم تتعود الأذن على سماعها، ألفاظًا من المستقبل وللمستقبل، إلاّ أننا نأبى كل ذلك، ونعود لقاموسنا القديم الخرب. أثار لديّ هذه الفكرة قول المهندس عبدالله الرحيمي إن هذا المطار هدية من خادم الحرمين الشريفين. كيف تقول إنه هدية، ثم في اليوم التالي تتحدث عن سندات لتمويل المشروع؟ وإن كنت تقصد يا مهندس عبدالله أنك قدمته لنا كهدية حضرت في وقتها، فهنا كذلك نقول لا، بل تأخّر كثيرًا.. كثيرًا. إذًا هو ليس بهدية.. لا من حيث الثمن، ولا من حيث الزمن. نعم أؤكد أنه ليس هدية. وإطلاق هذا الوصف يجعلني أقول إن خطابنا الداخلي لا يرتفع أبدًا لمكانة وطننا، ولا لخطاب مليكنا. فنحن لسنا وطنًا طارئًا على التاريخ، نحو دولة. نعم نحن دولة من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، دولة مؤسسة لجامعة الدول العربية، دولة قبل الحربين الكونيتين، دولة عندما كان نصف العالم العربي تحت الاستعمار. إلاّ أننا مازلنا نصر أن نعامل بالهدية، والمنحة، والهبة، والمكرمة، وميزانية الخير. أحيانًا يخيّل لي أننا في عداء مع أنفسنا، كأننا نصر ونأبى أن نكون دولة. دولة عصرية حقيقية تتكون من أرض وشعب وحكومة (حكومة هي سلطة تنفيذية تتجاور مع سلطه قضائية، وسلطة تشريعية رقابية)، ثم علاقات بينية واضحة المعالم تتضح منها الحقوق والواجبات، وما هو لله وما هو لعباد الله، وما هو لبعض عباد الله. الكل يعلم أن لكل دولة ميزانية نقدية هي عبارة عن متحصلات الحكومة، سواء من إيراد الأرض، أو أنواع الدخل المختلفة تقابلها أوجه إنفاق مختلفة، هذه هي الميزانية لا أكثر. فكيف نحوّل بنودها إلى هبة وهدايا ومكارم؟ أنستكثر على أنفسنا أن نكون شعبًا ينفق عليه ممّا تنتج أرضه؟ والأعجب أننا مازلنا مع هذا ندندن حول العالم الأول، كأنما العالم الأول هو طرق ومبانٍ وليس قيمًا ومبادئ. هل نستخسر على أنفسنا أن نرفع الرأس قليلاً؟ ألا نعلم أي أثر سيئ الذي نجنيه بذلك على أجيالنا القادمة التي أصبحت تطل بنافذة الإنترنت على كل العالم؟ بل ما إجابتنا إن سألنا أحد أبنائنا ببلاهة وهو يقرأ سورة الإسراء ما معنى قوله تعالى (ولقد كرّمنا بني آدم؟). ترى أي احترام سيقدمه لنا أبناؤنا وهذه حالنا؟ هل نقول لهم إن آباءهم استعذبوا أن يعيشوا على المكرمة والهبة والإحسان؟ وعلاجهم ليس على حساب الوطن، بل هو علاج على حساب محسن كبير؟ وزواجهم بتبرع من رجل سخي؟ أعلاج باسترحام، ومقعد جامعة باستعطاف، ووظيفة باستجداء؟ أهكذا تكون الحياة بكرامتها؟ بعض الأحداث والمناسبات لا تثير منا العقل، بل تحرك منا اللسان فقط. في كل العالم يفرح الناس، ويتزوج الناس، وتمر عليهم المناسبات والذكريات، لكن إن حضرت مناسبة لأحدنا تفتحت شهية القول، وتفجرت الأعمدة بسيل مقالات مستمر، وانشقت السماء بقصيد منهمر. والعجيب حقًّا أن معظم القول لم يكن مطلوبًا أصلاً، ولا ملامة على مَن لم يتبرع بالقول، لكنه عنصر المبادرة، فليت مبادراتنا في مكانها. كم من مقالات وقصائد تزيد لقائلها من الدخل ولكنها تنقص له من الكرامة. أقول ما قلت ولكني أقول:- غفر الله لي، هل يُلام المحروم حين يستجدى، أم يُلام ظرفاً جعله محروماً يستجدي..؟! عمومًا بالنسبة لي بعد أن أموت أوصيكم أن لا أُغْسل وفق تعليمات سديدة، ولا أُكفّن بتوجيهات مباشرة.. ولا أُحمل بنعش هدية، وخصوصًا القطنة لا تكون هبة، ولا أُدفن في أرض كانت منحة. وبالذات إن كانت كيلو في كيلو.