* من أخطر الانتفاضات، وأكثرها تأثيرًا في مسيرة التاريخ ما يُعرّفه المؤرّخون بالثورات الاجتماعية، فعبر التاريخ الإنساني لم تحدث تحوّلات كبرى كما حدثت نتيجة للانتفاضات الاجتماعية، كما في الثورة الفرنسية، والثورة البولشفية، والثورة الصينية. * وللانتفاضات الاجتماعية مسببات أهمها انعدام الحقوق، وسيادة الطبقية داخل المجتمع. فأوروبا العصور الوسطى على سبيل المثال كانت مرتعًا لطبقية مقيتة خلّفت عبودية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، حين كان الماركيز، أو الدوق، وهما من سادة نظام الإقطاع، يملكون الأرض ومَن عليها من بشر، وشجر، وحجر، وكل شيء. * دفع ذلك في تراكماته إلى ما عرف واقعًا بثورة الجياع، وتاريخيًّا الثورة الفرنسية التي أحدثت خضة عالمية كبرى، خاصة في مبادئها الثلاثة: الحرية، الإخاء، المساواة، وانتشرت آثارها إلى أنحاء عدة من العالم، لا تزال واضحة حتى يومنا هذا. * وشرق أوروبا إبان الحقبة الشيوعية شهد انتفاضات اجتماعية ضد الاستبداد والدكتاتورية، انتهت إلى هدم سور برلين، وتوحيد الألمانيتين، والقضاء النهائي على الأنظمة الاستبدادية التي كانت تسوم الناس سوء العذاب، كما في حال دكتاتور رومانيا الأسبق شاوشيسكو. وشهدت أوروبا بعد ذلك اتجاهات للتوحّد انتهت إلى ما تعرفه حاليًّا من وحدة نقدية، وتكتل سياسي ألغى الحدود، ووحدَّ الشعوب. * وما حدث في تونس، رغم مأساته التي دفع فيها كثيرون دماءهم، وذهبوا ضحية استبدادية، ليس سوى استمرارية للثابت التاريخي في أن الانتفاضات الاجتماعية لا تأتي هكذا خبط لزق، أو عفوية، بل إنما هي تراكم لامتداد زمني من القهر والظلم قد يحرق الأخضر واليابس حال اندلاعه. * فمَن كان يُصدِّق أن حادثة بسيطة في ظاهرها تتحوّل إلى شرارة لهب حارقة لنظام بأكمله، فمنع محمد بوعزيزي من بيع الخضار في عربته المتنقلة، ربما حدث مئات المرات في المدن التونسية، إلاّ أن حالة القهر التي شعر بها البوعزيزي كانت في كل نفس أبية من أبناء تونس رجالاً ونساءً، ولهذا عندما أحرق البوعزيزي نفسه قهرًا واحتجاجًا على منعه من كسب رزقه الحلال، حدثت الشرارة التي أحرقت النظام التونسي السابق، وحطَّمت القيود الاستبدادية التي كانت سائدة، وشعر التونسيون بنسيم الحرية. * التضحية التي قدمها البوعزيزي كانت خاتمة سلسلة من تضحيات جعلت التونسيين يعيشون في رعب دائم، وخوف من المستقبل، ولكن وكما هي أحداث التاريخ الكبرى كانت تضحية البوعزيزي التحوّل المفصلي الذي أحدث الفارق، وأجبر النظام على الخروج، وهو ما سيجعل البوعزيزي علامة خالدة في صفحات النضال التونسي، كما سجله رجالات تونس ضد الاستعمار الفرنسي. * البوعزيزي اليوم رغم مقتله سيبقى رمزًا لمقاومة الظلم، وسيتحول مع الأيام إلى أيقونة يرسمها المظلومون والمقهورون في كل بقاع الدنيا، كما حوَّل الشباب الفلسطيني الأبي الحجر إلى رمز للثورة على الظلم والقهر والاحتلال. فاكس: 6718388 – جدة[email protected]