مات البدوي النبيل محمد الثبيتي. رحل بدون ضجيج، انسحب بهدوء، مشى على رؤوس أصابعه، انسلّ من بيننا وكأنه كان يقصد أن يتركنا في غفلتنا الطويلة، نترقب أخبار هزائم كروية جديدة، أو نتطلع إلى آخر أخبار شاعر المليون ومزايين الإبل. استيقظنا على خبر رحيله. سنوات وهو يعاني من المرض لكن دون أن ينتبه أحد. اليوم ثأر الثبيتي لهذا التجاهل الطويل، ورحل وكأنه يعاقبنا قائلًا: لم يعد لي مكان بينكم أيها الغارقون في صغائر الأمور. من رحم القوافي خرج، وإلى باطن الشعر يعود. هكذا، كأنه لم يكن يحيا بيننا وفينا. كأنه لم يستنطق وجعنا ولم يستنبت لآلامنا لسانًا عربيًا مبينًا. كأنه لم ينتصر للخزامى في وقت كاد يختفي فيه عبقنا ويضيع في زحام الروائح المصنوعة والمتصنعة. كأنه لم يمسك بيدي العالم، كل العالم، ليقف المبهورون بالريح القادمة من الشمال على الفارق بين أصالة الثابت وسر اللا منتهي في صحرائنا، وبين حمى التغيير اللا إنساني التوجه التي تجتاح العالم. لقد كان الفارس والحصان معًا. امتطى صهوة الكلمة فتحول النشيد إلى صهيل مقفّى تجوب أصداؤه أرجاء الصحراء الممتدة إلى ما لا نهاية. حافظ على أناقة القصيدة رغم أنه طعّمها بمفرداته (الحرشيّة) الحادة. صاغ أبياته كبستاني يجمع الورود، دون أن يخترق شوكها جلد يديه المتشقق بتأثير أشعة الشمس اللاهبة، وعصف الرمال المتقدة كالجمر، ورياح الصحراء التي سرقت من السياط وقعها الحاد. يقول الثبيتي في إحدى أجمل قصائده: ((أنا حصان عصيّ لا يطوعه بوح العناقيد أو عطر الهنيهات أتيت أركض والصحراء تتبعني وأحرف الرمل تجري بين خطواتي أتيت أنتعل الآفاق.. أمنحها جرحي.. وأبحث فيها عن بداياتي يا أنت لو تسكبين البدر في كبدي أو تشعلين دماء البحر في ذاتي فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتفي ولا عبير الخزامى من عباءاتي هذي الشقوق التي تختال في قدمي قصائد صاغها نبض المسافات وهذه البسمة العطشى على شفتي نهر من الريح عذري الحكايات)) لقد انتعل الثبيتي الآفاق دون أن يحظى باهتمامنا! هل هذه هي طبيعة الأمور في مجتمعي؟