فرقعات أصابعهم من الملل وطول الانتظار يتردد صداها في جنبات الممرات، وحركة الأقدام البائسة التي تدق البلاط ذهابًا وجيئة بانتظار فتح الأبواب المغلقة تثير اشمئزاز العمارة التي كانت تئن، وتهدد بالسقوط. تمر جحافل الخدم متجهة الى الطابق الأرضي ورائحة (التميس) التي ناءت به الأكف والأكياء البلاستيكية المشنوقة بالأصابع والمملوءة بالفول الحار مع الشطة يعبق بها المكان، ويسيل لها اللعاب، وعبدالله يقبع في ركن احد الممرات على كرسي كان هو الآخر يشكو كثرة الجلوس. كاد جاره أن يمسك بتلابيب أحد الخدم فيغتصب منه احدها ليسد به رمقه، لولا أنه خشي من عقاب التأخير القابل للتمديد أشهر وسنين، ولأن الإنسان في مثل هذه الأمور لا يتساهل ولا يرحم. بعد ساعات من الانتظار سمع ومن معه طقطقات أقفال الأبواب من الداخل فخرج القوم كأنهم جراد منتشر، فحمدالله وأثنى عليه ظنًا منه أن الفرج قد اقترب، ولكن الفرحة لم تتم فقد عادت الطقطقات هذه المرة من الخارج فانزوى في زاويته مرة أخرى ليستسلم للتأويلات المبررة عنده بلا شك. القابعون في الطابق الأرضي في تؤدة من أمرهم، والأسئلة تستحث الخدم. أين التميس، الفول، القشدة، المربى، والكبدة، وابريق الشاي المنعنع؟ صاح أحدهم في نشوة غير عادية أين العسل يا عسل؟ وبعد طول انتظار نظر عبدالله الى عكازه المضطجع إلى جواره، وخاطبه معتذرًا له فقد أيقظه من سباته مبكرًا، ثم سحب نظارته المقعرة، ومسح ما علق بها من بخار أنفاس الضعفاء المحترقة. استدنى أحد الخدم ذو السحنة الآسيوية والذي كان يحمل ابريق الشاي المنعنع متجهًا إلى الطابق الأرضي في عجلة من أمره، وسأله اين المسؤول عن هذه الدائرة؟ رد عليه بعفوية لا تعرف الكذب والمراوغة (بابا: المسؤول في البدروم) تعال بكرة. هز رأسه وحمل معطفه على كتفه وتناول عكازه ونظارته وغادر. عند بوابة الخروج كان سائق الأجرة ينتظر، ولما عرفته قصته انفجر ضاحكًا، ولكنه واساه بأن ربّت على كتفه، وقال (ما عليس بابا مافي مشكل أنت يجي بكره وأنا يجي بكره، وبكره، وبكره...).