صدر حديثًا، في نوفمبر 2010 عن دار الشرق للنشر والتوزيع - عمّان / الأردن، للكاتبة والفنّانة السعودية تركية عواض الثبيتي كتاب بعنوان “ضوء وتجلّيات”، سلسلة مُتتابعة من رموز الإبداع السعودي، يقع الكتاب في 302 صفحة، موزّعة في سبعة فصول. الغلاف الأمامي من تصميم سالم التميمي، الغلاف الخلفي أخذ عن لوحة للكاتبة نفسها الفنانة تركية الثبيتي. صدّرت الكاتبة مؤلفها بإهداء تلاه شكر وتقدير، ثمّ استبدلت “المقدّمة” المعتادة في معظم الكتب بالعنوان التالي: “كُنْه”، ليعبّر هذا العنوان فعلًا عن محتواه، إذ إن ما جاء تحته يُشكّل كُنهًا مهمًا وهدفًا رئيسًا من أهداف الكتاب. دُعّم النّص بقائمة طويلة من المصادر والمراجع المثبتّة في آخره، إضافة إلى الحواشي والشروحات في متن النّص، كما دُعّمت الموضوعات المطروقة بمجموعة كبيرة من الصور الملوّنة عالية الدّقة، على ورق أبيض صقيل عالي الجودة، تراوحت ما بين موجودات أثرية عُثر عليها في أجزاء مختلفة من المملكة، ولوحات فنيّة عالمية وأخرى لفنانين سعوديين وغيرها. الموضوعات التي طُرقت في فصول الكتاب كانت على النحو التالي: الفصل الأول: بحث في التّداخل والتشابه بين مجمل فنون التعبير الإنساني، من بينها الأدب والفن، قدّمتهما على أنّهما ناتج نشاط عقلي وعاطفي (قلبي) مشترك، ثم أخذت هذا الناتج الإبداعي، وبيّنت المكامن التي يستمدّ منها قيمته، بعد ذلك أخذت العمل الفني بالتّحديد، ووضّحت العناصر الأساسية في بنائه وتشكيله. الفصل الثاني: تخصّص في بحث القدرات والميّزات التي يجب أن يتحلّى بها المبدع، الفنّان نفسه (أو الأديب) كي ينتج عملًا مميّزًا، ثم أظهرت الرّابط الخفي بين الجو النفسي والروحي للفنّان وما أبدعته يداه، مبرزة العمل الفني كموضوع محتمل للدراسة النفسية، التي تقودنا للتعرّف على أجواء الفنان الإبداعية، معطية أهميّة واضحة لسيكولوجيا الفن. الفصل الثالث: تستكمل اهتمامها بسيكولوجيا الفن من خلال رسم الأبعاد الرمزية لبعض المكونات الرئيسية للعمل الفني. الفصل الرابع: خصّصته للإشارة إلى تاريخ ونشأة الفن بالمعنى الإنساني الشامل، ثم اختارت عشر مدارس فنية تشكيلية قدّمتها للقارئ من خلال مختصر مكثّف مدعّم بباقة من اللوحات المنتقاة. الفصل الخامس: انتقلت به من العام إلى الخاص، من العالمية إلى المحلية، أظهرت فيه التّسلسل التاريخي للفن في شبه الجزيرة العربية، خاصة المملكة العربية السعودية، من خلال تقديم ثلاثة عشر موقعًا أثريًّا في المملكة، وعرض ما عثر عليه فيها من موجودات، مدعّمة كلّ ذلك بصور منتقاة من حيث الدّقة والحرفية. الفصل السادس: انتقلت إلى الفن المعاصر في المملكة العربية السعودية، مقدمة خمس عشرة جماعة فنية، شكّلها فنانو وفنّانات المملكة، كاشفة عن أهم نشاطات هذه الجماعات وأساليبها الفنية وغاياتها وأهدافها، ثم أهم أسماء الفنانات والفنانين المؤسسين والمنتمين لها. الفصل السابع: اختارت أحد الفنانين السعوديين المعاصرين، الأستاذ الفنّان أحمد حسين الغامدي، عرضت مسيرته الفنية والإبداعية، كفاتحة طريق نحو سلسلة موعودة عن باقي الفنانات والفنّانين والمبدعين السعوديين المعاصرين بشكل عام، إذ وضعت كلمة الإبداع لكي لا تقف كلمة الفن حائلًا دون تناول مجال إبداعي آخر. من خلال تمعننا لما جاء في فصول الكتاب، يتّضح لنا الهدف الأساسي عند الكاتبة الذي يتخطّى هذا الكتاب بحدّ ذاته إلى مشروع طويل وشائق، يتمثّل بوضع سلسلة من الكتب، يتناول كل منها إحدى الفنّانات أو الأديبات أو أحد الفنانين أو الأدباء السعوديين المعاصرين، في محاولة تشبه وضع “بيوغرافي” للفن التشكيلي والأدب السعودي الحديث. بذلك يكون الكتاب الذي بين أيدينا (ضوء وتجلّيات) عملا تأسيسيا لعمل كبير قادم، فهل يا ترى نجحت الكاتبة بالتأسيس لهذا المشروع الشّجاع؟ نقول نعم، فمن خلال تمعننا لمادة الكتاب، نستطيع تقسيمه لثلاثة أجزاء، بها استطاعت الكاتبة أن تتسلسل بسلاسة وذكاء من العام إلى الخاص، رابطة ما يحدث هنا على الأرض السعودية، بما يجري عالميًا، سواء قديمًا في عمق التاريخ أو حديثًا، وما يجري الآن على صعيد الحركة الثقافية والفنية التشكيلية. الجزء الأول: اعتنى بالجانب النّظري، فكان معالجة في فلسفة الفن والأدب وقيمتهما كمنتجين لنشاط عقلي وروحي إنساني. الجزء الثاني: تابعت فيه الجانب العام من خلال عرض تاريخ الفن وتشكّل أهم مدارسه وأساليبه على صعيد العالم. الجزء الثالث: انتقل إلى الخاص، ما جرى تاريخيّا على هذه الأرض، وما يجري الآن، معطية قيمة للحاضر من خلال ربطه بالعام الإنساني، ومن خلال تأصيله وإظهار تواصله الزمني التاريخي. هذا التنسيق الذهني لمادة الكتاب عند المُؤلفة، الذي نفّذ فعليا في بناء المُؤلَف، ينم عن مدى إلمام الكاتبة في جزئيّات مواضيعها، ومعرفتها ووعيها الكاملين بالمكان الذي تقودنا إليه، لم يكن أيّ من فصول الكتاب أو مواضيعه عبثيًا، ولا ارتجاليًا، بل اختير بعناية مع سابق تخطيط، ليخدم في النهاية الهدف الأساسي من هذا المشروع الثقافي الكبير. عند مطالعتنا للكتاب، برزت أمامنا قضايا أساسية، تحاول الكاتبة جاهدة في كل ركن وفي كل فقرة إيضاحها وتسليط الضوء عليها، أوّلها الهمّ الوطني الذي تحمله، فتحاول في كلّ فصول الكتاب إبراز أهميّة الانتماء الوطني وايقاعاته وانعكاساته على الإبداع والإنتاج الأدبي والفني، كيف أن قيمة الإبداع نفسه تُستمد من هذا الانتماء، ناهيك عن تجنيد الكاتبة لكل ما تملك من حنكة وحكمة ومعرفة لإنصاف الحركة الأدبية والفنية التشكيلية السعودية، إيجاد موقعها الحقيقي الذي تستحقه في المسيرة الثقافية العربية عامة، وفي المسيرة الثقافية الإنسانية الشاملة، هذا الشعور بالإجحاف في حق الثقافة السعودية، له مبرّراته التاريخية والاجتماعية التي وكما يبدو، وضعت يدها عليها بوعي وبدقة، فانبرت تُبطلها وتفنّدها فتضيء مكامن الجمال في هذه المسيرة، التي لا تقل نوعًا عن مثيلاتها في باقي أرجاء الوطن العربي الكبير، حتى ولو تأخرت زمنيًا خلال فترة ماضية، انتهت وتمّ تجاوزها. نوع من الإلحاح الواعي الموضوعي لإنصاف الحركة الثقافية السعودية، وتغيير المواقف المسبقة المجحفة تجاهها من قبل البعض، باثة القوة والعزيمة، مستهدفة الثقة بالنفس، إذ إن فقدانها أخطر ما يمكن أن يصيب ثقافة جمعية بعينها. المحور الأساسي الثاني اللافت للنّظر، قدرة الكاتبة على تحسس وتلمس الفقر المدقع الذي تعاني منه المكتبة العربية عامة وليس السعودية فقط، خاصة في مجال البحوث والمراجع في فلسفة الفن وقضاياه النظرية وتاريخه ومواكبة تطوره ومدارسه وأساليبه ودراساته المقارنة المتخصصة مع مجالات الإبداع الإنساني الأخرى، بل أنها تكشف عن جوانب ثقافية مهمة تعاني المكتبة العربية من نقصها. ثمّ تركز الضوء على معاناة المثقف نفسه، وصعوبة عمله، ووصوله أحيانًا كثيرة لطرق مسدودة بسبب هذا النقص الشّديد. الأكثر جذبًا في هذا الموضوع، إن الكتاب الذي تقدّمه تركية الثبيتي، هو تطبيق عملي وأنموذج للمثقف العربي والسعودي، يبيّن كيف عليه تناول مثل هذه المواضيع، بمنهجية أكاديمية وبموضوعية تستند إلى البحث والتقصي الدقيقين، فكأنها لم تستكفِ برسم الخارطة للمثقف السعودي والعربي على حدّ سواء، ترشده لأماكن الضعف على الساحة الثقافية العربية (التي لا تنفرد بها الساحة الثقافية السعودية) وكيف يجب عليه بناء صرح ثقافي سليم، بل تقوم وتضع بمؤلفها حجر الأساس لهذا الصرح. بغضّ النّظر إن كنّا نتفق أو نختلف حول ما جاء في الكتاب من أفكار ورؤى جدلية، فإن الكتاب في كل مفاصله يثير الدّهشة لاتّساع ثقافة الكاتبة، ومتانة بنائها المعرفي، لغتها السهلة السلسة المفهومة دون التعقيدات الصياغية، أسلوب معالجتها الذهنية الموضوعية المتسلسلة منطقيًا، من الأبسط للأكثر تعقيدًا، مراعية كل المستويات الثقافية للقرّاء، وصولًا لاستنتاجاتها، فالمؤلَّف من هذه الناحية، مبني بعناية بالغة كي تُمكّن الجميع من الوصول لمضمونه. في الفصل الأخير، تقدّم الكاتبة فاتحة سلسلتها المتتابعة عن المبدعين السعوديين في المجال الأدبي والفني، فكان اختيارها الأول للفنان أحمد حسين موفقًا، محاولة الوقوف على ما يستحقه هذا الفنان من احترام، وتسليط الضوء وإظهار القيمة الفنية لإبداعاته وتنوعها، تلك الإبداعات المبنية على عصامية وكدّ وكدح متّصل منذ الطفولة، أحمد حسين، الفنّان السعودي الذي قلنا عنه ذات يوم أنه يمتلك فرشاة من الذهب الخالص “أربعة وعشرين قيراط”.