تصادمت الأوراق وأصدرت ضجيجًا، تهالكت الأقلام ونفدت وقودًا، مرت ساعات طوال تعانق فيها الأفكار جمال الذكرى، ويصارع المنطق مرارة الفرقى، أريد أن أبوح بما في أعماقي، ولكن أصبحت لا أفرق بين العقارب أهي ساعات أم ثوانٍ؟ قد مر الوقت سريعًا وأنا واقفة أشاهد الموقف، ولا أستطيع سوى أن أعيد الذكرى، يمر الشريط سريعًا أمامي فأبتسم ويروي دمعي جمال ذكراها، رعتني بذرة صغيرة من الصف الأول الثانوي، شجعتني ودعمتني، أمسكت بيدي بقوة امتزجت بحنانها، وسارت بي على طريق التميز والنهوض، كانت عباراتها تتردد في أذني دومًا، كما لو أنها نغم موسيقي يطرب الناس بسماعه، أحببتها كثيرا، ولكنني احترت في حبي لها، أي صنف من الحب قد يصرف إليها؟ كان معيار حبي الوحيد هو أمي فقط، وها أنا أعترف بأن حبي لها قد اندرج تحت قائمة حبي لأمي، أصبحت أناديها «أمي» عوضا عن “أستاذة”، لم أجد ما يعطيها قدرها فعمدت إلى تقبيل رأسها ويدها كلما قابلتها، وفي كل مرة أجد فيها حنانًا كبيرًا لا ينفد، رعتني بيد كريمة، بدأت البذرة الصغيرة في النمو، فكانت ترعاها دومًا، إذا جاء الهتان لطيفًا عرضتها له، وإن جاءت رياح حمتها بين كفيها الحنونتين، نمت تلك البذرة، أصبحت نبتة، وها هي الآن تنتج أزهارًا، مع أول زهرة كانت أجمل ذكرى، في كل صباح كانت تمسح بيدها الحنونة على بتلات الزهرة وتقول لها: “أنت ذخري يابنيتي”، “أجد فيك نبوغًا وفكرًا سويًا، سيري على نهجك يابنيتي”، فكنت أنتعش وأزيد نشاطًا فتتلون بتلاتي بألوان الفرحة والزهو ولكن ما كان غير متوقع أن تبتعد عني من رعتني قبل أن أعطيها الزهرة التي كنت أنمو لأجل أن أهديها إياها، فاجعة عظمى أن يداهمني الخريف قبل أن أُزهر،أين متى كيف لم؟ أسئلة تتابعت بنفس واحد ولكن دون جواب. كنت أدرك خلال الفترة الماضية بأن لكل بداية نهاية، وأن نهاية البداية هي بدايتها، ولكنني كنت أتغافل عن هذه الحقيقة وأحاول أن أستمتع بتلك اللحظات التي كنت أنمو فيها تحت رعايتها، ولكن لم تذهبين؟ لم لا تبقين معي فلم يبق سوى القليل على تفتح أزهاري البقية؟ قد لا أجد لهذه الأسئلة جوابًا، لكن كل ما تبقى هو سيرتها العطرة التي ستظل نبراسًا يقتدى به. من ذكرى أمي سأقتات، إن كانت الذكرى تجدي نفعًا. أتعلمون من هي؟ هي الحنان انهمر، هي زخات المطر، هي جنة الرضوى، هي جمال الروح، هي بلسم الجروح، نعم هي أمي التي لم تلدني مديرة المدرسة الثانوية السادسة عشرة بمكةالمكرمة الاستاذة الفاضلة: حنان حسن عبدالدائم. لقد منّ الله عليها بالتكريم وتم ترقيتها من منصب مديرة إلى مشرفة إدارة مدرسية بمكتب التربية والتعليم بغرب مكة. لا أملك سوى أن أقول لها: “أمي، أحببتك كثيرًا وسأظل أحبك دومًا، وقد سجل تاريخي بحبر من ذهب فخره بتسطير حروف اسمك بين طياته، أمي... وإن قضت الدنيا أمرها، وأصرت على الفراق، أعدكِ بأنني سآتي في يوم من الأيام لأقول لكِ لقد عدت يا أمي وها أنا أقف بين يديك حاضرة مثلما كنت تتصورينني مستقبلًا، وأهديكِ زهراتي التي كنتِ ترعينها”. إيناس عبدالعزيز الجهني - مكة المكرمة