(1) دورهم خاوية من كل شيء سوى الموت! جثث في الحجرات، وعلى العتبات، وفي الطرقات، وعند منابع المياه. رائحة الموت تعج في الدروب، تجذب النسور والضباع، وتسبقهم هوام الأرض عبر منافذ الأجساد. أبوابهم نائحة، مسارحهم ساكنة، شجرهم لم يزهُ ثمره بعد، وسنابلهم لم تحصد، وآبارهم أشطانها مبللة! في المزارع سقائف لازالت تشوبها خضرة، تحتها تنور ساخن، عجينة رطبة، قربة معلقة ينز منها لبن أبيض، عجوز ثاوية على مغزلها، كهل مدد تكشف الرياح عن ساقيه، أطفال ساكنين، وفوقها ديكة تصدح! (2) تحت وهج الشمس الحارقة، سارت الفلول الهاربة من الموت، ألوف يسيرون فرادى وجماعات، رجالاً وركبانًا. يحملون أمتعتهم وأهليهم، دوابهم منهكة؛ تترنح من ثقل المتاع. يحملون فوق أكتافهم، وجوهًا جزعة، مبهوتة حذرة، ينظرون في وجل، يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم، والموت يتربص بهم من فوقهم ليغتالهم من تحتهم. لا يتكلمون، ولا يهمسون، لا ينصتون إلا لحسهم ودفوف أنعلتهم، ودوي جثثهم الساقطة على الصُعُدات. لغتهم أعينٌ تدور من الخوف، يحثون الخطى كأنهم يسيرون على ظهر الموت. يطوون الطريق والألسنة، لا يتوقفون، ولا ينطقون؛ خوفًا على الرمق الأخير. (3) خنق قدرهم حذرهم؛ رغم حرصهم والتشبث بالحياة، فصعقهم الموت، فتمددوا على تلك الرقعة جثثًا هامدة، رجالهم والنساء، عجائزهم والشيوخ، أطفالهم والعبيد، دوابهم والبراغيث.. مصتهم الصحراء، أذابتهم الشمس، فتفسَّخت أجسادهم، وسالت شحومهم، وطالهم السواد، وبعد أمد برزت عظامهم بيضا. لم ينفعهم الفرار من الموت أو القتل، تركوا ديارهم هلعًا، وشقوا البيد جزعًا، يطمعون في النجاة، فالتهمتهم الصحراء، بعد أن هربوا من الديار والبروج المشيدة. (4) ثم أحياهم.. فقاموا مذهولين من البعث، فأيقنوا باللحظة، فعطفوا أعناق دوابهم ناكصين إلى الديار!