الذين يخشون أن يتركوا ذريَّة ضعافا يخافون عليهم ، فيتركون لهم وقفا ينتفعون منه بعد موتهم لهم أجرهم عند ربهم ، وذلك من عملهم الذي لا ينقطع إذا ماتوا ، ولكن يجب على الواقف أن يكون كلامه في وصيته في وقفه واضحا لا تحتمل اللفظة فيه إلا معنى واحدا ، فإن كانت اللفظة تحتمل معنى أو أكثر أوضح ذلك بقيود تبين المقصود ، وتخرج ما يتوهم دخوله في معنى ذلك اللفظ ، وعليه أن يستعين بأهل الخبرة والرأي ، ولو كان لي من الأمر شيء لوضعت لجنة تحال إليها كل وصية لتحقق من دقة ألفاظها ومطابقتها للواقع ، كيلا ينقلب ذلك الخير إلى شر مستطير بين أصحاب الوقف وذريتهم من بعدهم ، وإنني أخشى على ذلك الواقف إن أهمل أو فرَّط أن يقع في وزر أو نقصان أجر ، والواقع شاهد عدل على قضايا كثيرة فرقت الرأي والقلوب والأنفس ، ويمكث فيها أصحابها يتنازعون أمرهم بينهم ، وهم ذاهبون آيبون إلى مجالس القضاء ، يخسرون من أنفسهم وأموالهم بدل أن ينتفعوا مما تركه لهم أبوهم ، ومن الصور الشائعة التي وقفت على الاختلاف فيها والصراع المرير أن ينص في الوصية على الأولاد وهو يريد الأبناء وحدهم ، أو يقول : أبناء أولادي ، وهو يريد أبناء أبنائي ، أو أن يخصَّ الصالحين منهم دون غيرهم ، فيقع الخلاف الشديد بينهم في من هو الصالح ومن هو الطالح ، ولا أحد يرضى أن يوصف بالفساد ، فصار هذا الوقف شعلة نار تحرق العلاقات وتأكل الروابط ، ومنهم من يتظاهر بالصلاح ليحصل له ذلك العَرَضُ الأدنى ، وكان يكفي الواقف أن يترك هذا الأمر ويوصي ورثته ، بأن لا يختلفوا بعده ويكونوا من الصالحين . ومن الصور : أن يكون له مِلْكٌ كبيرٌ فيه مزارع وأبنية فينصّ على المزارع ، وفيها مساكن وأبنية ، ولا يستثني شيئا ، فيختلف بعد ذلك الورثة ولو بعد جيلين أو ثلاثة أو أكثر ، فيدّعي بعضهم دخول المساكِن ، ويقول الآخرون : لا ، فتتوقف المصالح ويجد الشيطان مدخلا واسعا للتحريش بينهم وإيقاع العداوة والبغضاء .